تنسج دول الخليج تحالفاتها على أساس أن الحرب بين أميركا وإيران، أو بين إسرائيل وإيران بقرار أميركي، ستحصل في يوم من الأيام، إلّا أن تلك الدول تعرف، ولا تُخفي، أن ثمن أيّ حرب من هذا النوع سيكون كارثياً عليها، بالمعنى الوجودي، على الأقلّ لأنظمة الحُكم فيها؛ لأنها ستكون، بشكل أو آخر، ميدانها الأساسي. ولذلك، تمنّي البُلدان الخليجية أنفسها بألّا تحصل الحرب. المشكلة الرئيسة بالنسبة إلى هذه البُلدان، وهي أشبه بمحميّات أميركية، أنها لن تكون شريكة في اتّخاذ قرار الحرب، ما دامت لا تستطيع الخروج من تحت «البشت» الأميركي الذي يغطّيها، بمعزل عن الخلافات الجزئية التي تُطاول ملفّاً من هنا وآخر من هناك بين واشنطن وحلفائها الخليجيين. ذلك أن دول الخليج، وبسبب بُنيتها الهشّة، قاصرة عن تحقيق حدّ أدنى من استقلال القرار، يتيح لها اتّخاذ مواقف تنسجم مع مصالحها الحقيقية في حال الحرب. كما أنها، وبسبب البنية الضعيفة المُشار إليها، لا تملك الوسائل العسكرية والموارد البشرية للدفاع عن نفسها بشكل مستقلّ عن «الضامن الأمني» الأميركي، الذي سيكون مشكوكاً في استمرار ضمانته، إذا ما فشل في تحقيق أهداف حربه المفترضة، وحزَم حقائبه وغادر، كما فعل بعد كلّ هزائمه، من فيتنام إلى أفغانستان، وترَك الأنظمة الحليفة له لمصيرها.لكن من حظّ أنظمة الخليج، وهي تَعرف ذلك أيضاً، أن أميركا نفسها قد لا تتحمّل كلفة حرب من هذا النوع، ليس بالمعنى العسكري فقط، وإنّما في الأساس بمعنى الضرر البالغ الذي سيَلحق بالمصالح الأميركية، ولا سيّما في هذا الوقت، الذي تنتظر فيه قوى عالمية كبرى كروسيا والصين، الفرصة لإضعاف الولايات المتحدة وتحقيق قدْر أكبر من التوازن معها في النفوذ العالمي. ولذا، فإن ما يجري الحديث عنه في شأن استعدادات للحرب، يبدو تهويلاً أكثر من أيّ شيء آخر، وربّما يهدف بالذات إلى تجنّب أيّ احتمال للحرب التي لا يملك أحد جواباً على سؤال: ماذا في اليوم التالي لها؟ ولذا، فإن التغييرات التي تُجريها أميركا في خريطة تحالفاتها في المنطقة، مِن مِثل نقْل إسرائيل من نطاق عمل القيادة الأوروبية للجيش الأميركي، إلى نطاق عمل القيادة الوسطى التي تضمّ كلّ دول الشرق الأوسط، قد تندرج في سياقات أخرى، وليس بالضرورة في سياق الاستعداد لحرب مع إيران. وبالمِثل أيضاً، فإن دمْج تل أبيب مع العواصم العربية الحليفة لواشنطن، وتحديداً الخليجية منها، في بنية عسكرية واحدة، يهدف إلى «تسييد» الأولى على هذه المنطقة كترجمة عسكرية لـ«اتّفاقات أبراهام»، وتخفيف العبء عن كاهل الولايات المتحدة التي لم تَجِد حلولاً لمعضلة الوفاء بمتطلّبات تحالفها مع الدول الخليجية، من قَبيل نشْر قوّات فيها وتكبُّد التكلفة الباهظة لذلك. وفي هذا السياق، يندرج الإعلان الأميركي عن مناورات سعودية - أميركية مشتركة لاختبار الدفاعات المشتركة ضدّ المسيّرات، تبدأ قريباً تحت اسم «الرمال الحمراء»، وهي من بنات أفكار قائد القيادة الوسطى الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، وستقتصر في نسختها الأولى على البلدَين، على أن تشمل نسخها اللاحقة في الأشهر المقبلة، دولاً أخرى في المنطقة.
دول الخليج قاصرة عن تحقيق حدّ أدنى من استقلال القرار الذي يتيح لها اتّخاذ مواقف تنسجم مع مصالحها


ثمّ إن ثمّة فارقاً كبيراً بالنسبة إلى دول الخليج بين إدراجها ضمن «منظومة دفاعية» - بمعزل عن شكل هذه المنظومة وأطرافها -، خصوصاً مع إدراكها أن إيران ليست في وارد المبادرة إلى أيّ هجوم ضدّها، وبين تحميلها وِزر مغامرة قد تُقدِم عليها الولايات المتحدة وإسرائيل وتكون نتائجها كارثية على الجوار الخليجي. وعلى رغم أن بعض تلك الدول لا تتورّع عن تأييد هجوم في حال كانت متأكّدة من أنها ستنْفد «بريشها» منه، وهذا ما يبرّر التقارير عن تحريض خليجي للأميركيين على ضرْب طهران في ظروف معيّنة، ولا سيّما في عهد دونالد ترامب، أو مساعيها لإذكاء الاضطرابات التي حصلت أخيراً داخل إيران بغرض إضعافها، إلّا أن الإشارات التي تَصدر عن الأنظمة الخليجية عموماً، تشير إلى أنها تخشى حرباً على الجارة الكبرى. وبعدما تخطّت إيران موجة التظاهرات التي حصلت في الأشهر الماضية، أصبح احتمال الحرب أصعب، لأن نجاح طهران في استيعاب الأزمة، حرَم واشنطن وحلفاءها من الحصول على موطئ قدم في الداخل الإيراني، وجعل إيران في موقع أكثر قوّة في أيّ حرب مفترضة، باعتبار أنها ستوحّد الإيرانيين ضدّ المعتدي.
ولذا، لا تُفوّت دول الخليج مناسبة لتأكيد مخاوفها من احتمال كهذا. ففي ما يتعلّق بقطر التي تضمّ أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، هي قاعدة العُديد، تنتهج تلك الدولة سياسة تَقارب مع إيران، وتضطلع بدور في محاولة تخفيف التوتّر بين الأخيرة وبين الولايات المتحدة، لمعرفتها بالأضرار الجسيمة التي يمكن أن تنجم عن حرب كهذه عليها وعلى المنطقة ككلّ. أمّا الإمارات، فقد تكون الأكثر تخوّفاً، لأنها ستكون الأكثر تضرّراً؛ ولعلّ من بين المؤشّرات إلى مخاوفها، ما أوردته الصحافة الإسرائيلية عن أن أبو ظبي ألغت زيارة كانت مقرَّرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إليها في بداية كانون الثاني 2023، بسبب الخشية من أن يسبّب أداؤه خلالها توتّراً مع إيران. والسعودية أيضاً لا تتعاطى مع الحرب ضدّ إيران على أنها حتمية، وهو ما يدلّ عليه التحوّل في لهجة وليّ العهد، محمد بن سلمان، بين سؤاله في مقابلته التلفزيونية الأولى كوليّ للعهد في أيار 2017: «كيف نتفاهم مع نظام يقول إنه ينتظر ظهور المهدي؟»، وتعهّده نقْل المعركة إلى الداخل الإيراني، وبين قوله في مقابلته التلفزيونية الأخيرة في آذار 2022، إن «إيران جارتنا إلى الأبد ولن نتمكّن من التخلّص من بعضنا البعض ويجب حلّ الأمور بيننا»، وذلك بعدما أصبحت السعودية هدفاً للهجمات اليومية بالمسيّرات والصواريخ من اليمن، وإثر هجوم «أرامكو» عام 2019، وكلّها عمليات تَتّهم الرياض طهران بالوقوف خلفها بشكل مباشر أو غير مباشر.