يُلزِم أحد اليهود «الحريديين»، وهو مالك لشركة محروقات، زبائنه كافّة بتوقيع عقود تنصّ على أن كلّ الخلافات تُحلّ في المحكمة «الحاخامية»؛ وبالتالي، في حال أراد زبونٌ ما مقاضاة الشركة على خطأ تقني أو خلل في مضخّة أو خدمة فاسدة أو أيّ شيء آخر، وسواءً كان علمانياً أو «حريدياً»، فلن تكون المحاكم المدنية العادية هي مَقصده، بل تلك الدينية. قد يبدو ذلك سيناريو خيالياً في دولة «ديموقراطية» يُصدّرها الغرب بوصْفها نموذجاً، لكن الواقع يقول إن هذا هو عيْن ما تنصّ عليه الاتّفاقات الائتلافية التي وقّع عليها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، مع الأحزاب «الحريدية»، «شاس» و«يهودية التوراة» و«نوعام»، إضافة إلى حزب «الصهيونية الدينية».تُقرّ تلك الاتفاقيات توسيع صلاحيات المحاكم الدينية اليهودية للنظر والبتّ في «ديوني ممونوت» (قوانين الأموال) - كما تُسمّيها الشريعة اليهودية -، وهي قوانين مُوازية للقضايا التي تناقَش في المحاكم المدنية العادية، بمعنى أنها تعالج شؤوناً مدنية بمعزل عن هذه الأخيرة، في مقدّمتها قضايا النزاعات ذات الأبعاد الاقتصادية، كالشراكة والجيرة والأضرار والمُلكية وغيرها. وعلى رغم أن وزير القضاء، ياريف ليفين، لم يُشِر، عندما أعلن، في مؤتمره الصحافي لدى تولّيه منصبه، خطّة «الإصلاحات القضائية» التي أثارت الجدل، ودفعت بمُعارضي الائتلاف من الليبراليّين العلمانيين إلى التظاهر والاحتجاج، إلى الاتفاق المذكور، إلّا أن هذا الأخير يشكّل «خطوة إضافية أخرى على طريق تغيير نظام القضاء في دولة إسرائيل»، طبقاً لموقع «هشومريم» (الحراس).
على هذه الخلفية، حذّر البروفيسور تسفي تريغر، من قسم الحقوق في «الكلّية الإسرائيلية للإدارة»، والمتخصّص في قانونَي الأسرة والعقود، من أن هذا المسار «هو خطوة إضافية في موجة التسونامي المصمَّمة لتعزيز حُكم الشريعة اليهودية، والإكراه الديني على حياتنا». وأضاف، في مقابلة مع الموقع المُشار إليه، أن ««ديني مَمونوت» لا تُناسب اقتصاد المجتمع الحديث وتعقيداته وقِيَمه»، معلّلاً ذلك بأن «منطق استيضاح واستنباط الحقائق فيها يختلف عن المنطق الذي تَستوضح به القوانين المدنية العصرية الحقائق؛ فالشريعة اليهودية تحرّم الفوائد البنكية وربْط برامج التوفير أو المدفوعات بجدول غلاء المعيشة أو بعملات أجنبية، فضلاً عن أن غالبية القُضاة في المحاكم الدينية اليهودية معفيّون من الالتزام تجاه القوانين المدنية، مِن مِثل قانون العقود، كما تختلف آراؤهم جوهرياً بشأن واجب التزامهم بقوانين التخطيط والتنظيم والبناء». وتابع أن «المحاكم الدينية اليهودية لا تَعتبر نفسها مُلزَمَة بمبدأ المساواة أو بأحكام قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته، كما لا تَعتبر نفسها مُلزَمة بأيّ مبدأ دستوريّ مدني (بأيّ قانون عادي، أو حتى ذي مكانة دستورية)، إذ إن قانون قُضاة المحاكم الدينية اليهودية ينصّ صراحةً على أنه «لا يخضع قاضي المحكمة الدينية اليهودية سوى لأحكام التوراة»».
مع ذلك، قلّل نائب المستشار القانوني للمحاكم «الحاخامية»، المحامي رافي رايخس، من هوْل «التسونامي» الديني، قائلاً إنه «منذ عام 2018 وضعْنا نصّاً لاقتراح قانون أقرّه الكنيست بالقراءة الأولى، والتزمْنا، من خلاله، بإخضاع أنفسنا لقوانين معيّنة. أنا واثق تماماً بأن مشاريع القوانين التي ستُطرح في الكنيست في هذه الدورة ستكون مشابهة لاقتراحنا المذكور، وبأنه سيكون هنالك اتّفاق واضح على صيغة يتمّ تنسيقها والاتّفاق عليها مسبَقاً مع وزارة العدل»، علماً أن الأخيرة يتولّاها ياريف ليفين، عرّاب «الانقلاب القضائي». صحيحٌ أن المشاريع المطروحة «ليست جديدة» كما أكّد رايخس، لكنها عندما طُرحت في دورات «كنيست» سابقة، أحبطها زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» العلماني، أفيغدور ليبرمان، ما أدّى إلى تجميدها. أمّا اليوم، وفي ظلّ حُكم «معسكر المؤمنين»، فـ«(إنّنا) نرى أن الفرصة كبيرة ومهيّأة لتمريرها، فنكون كَمَن تراجَع خطوة ليتقدّم خطوتَين»، على حدّ تعبير رايخس.
وفي ردّه على سؤال حول «منْح المحاكم الدينية اليهودية صلاحيات قضائية جوهرية كاملة» وليس مجرّد «صلاحيات تحكيم في نزاعات ذات جوانب اقتصادية والبتّ فيها بالاتّفاق بين المتنازعين»، أجاب المحامي نفسه بـ«أنّنا نقترح صلاحيات للمحاكم الدينية اليهودية، بالإمكان الاستئناف عليها وعلى قراراتها أمام المحكمة الدينية اليهودية العليا، ثمّ، بعد ذلك، إلى المحكمة الإسرائيلية العليا أيضاً»، علماً أن الأخيرة ستكون، في حال سلكت خطّة ليفين طريقها إلى التنفيذ، خاضعة كلّياً لسيطرة الائتلاف الحاكم، الذي سيحقّ له تعيين قُضاتها والالتفاف عليها. وتابع رايخس مقارناً بين الحالتَين، القائمة حالياً، وتلك المقترَحة في التعديلات التشريعية الجديدة، قائلاً إن «الفرق يكمن في أن الإجراءات القضائية عندنا هي أكثر نجاعة وسرعة ممّا هي عليه في المحاكم المدنية، كما أن الرسوم التي يدفعها المتنازعون ستكون لدينا أقلّ ممّا هي عليه لديهم بكثير». كذلك، فإن «المداولات حول النزاعات والدعاوى في المحاكم الدينية لن تكون في حاجة إلى محامين يمثّلون الأطراف المتنازعة ويربحون مبالغ مالية طائلة، لأن قاضي المحكمة الدينية هو الذي يدير هذه المداولات بنفسه»، ما يعني مخالفةً صريحة لجوهر البتّ في القضايا في المحاكم المدنية؛ إذ إن المحامين هم مَن يديرون المداولات في هذه الأخيرة، ومَن يتولّون إجراء التحقيقات، بينما القاضي يكون مستمعاً ولا يسأل إلّا للاستيضاح والتوضيح.
تكمن مخاطر التشريعات الجديدة في كوْن الشريعة اليهودية مصمَّمة من طريق إدخال مؤثّرات أفلاطونية على الدولة اليهودية، بحيث جعلتْها منذ عقود طِوال مرتبطة، وفق الباحث الإسرائيلي الراحل، يسرائيل شاحاك، بـ«اليهودية الكلاسيكية»؛ ففي «جمهورية» أفلاطون، «لا بدّ للأفراد من الاعتماد على الشرطيّ في توجيههم من أجل مصلحة الدولة»، وتأويل ذلك «حاخامياً» يعني وضْع «الحاخام» مكان الشرطيّ، على نحوٍ يستهدف ترسيخ أسس مجتمع شمولي مغلَق على نفسه، تقوده مجموعة من «الحاخامات» الذين يؤمنون بخرافة التفوّق اليهودي العِرقي على الأغيار. هذه المخاطر تُطاول على مستوى المجتمع اليهودي، النساء أوّلاً ثمّ العلمانيين؛ إذ لا يحقّ للنساء وفق «الهالاخاة» المثول أمام المحاكم الدينية اليهودية والإدلاء بشهاداتهنّ في إطار مداولاتها، ما يعني أنّهن «يبدأْن أصلاً من مكانة متدنّية». ولهذا، «حتى لو استطاعت المرأة الإدلاء بشهادتها أمام المحكمة الدينية، نظراً لأن هذه المحاكم غالباً ما تجد طريقة للاحتيال على المنْع الشرائعي والالتفاف عليه وتجاوُزه، بغية حفْظ قوتها وسيطرتها وتجنُّب خسارة الملفّات المختلفة، فسيكون التعامل مع شهادة المرأة على أساس أنها أقلّ قيمة وموثوقيّة من شهادة الرجل، لمجرّد كونه رجلاً»، وفقاً لتريغر.
الشريعة اليهودية تَعتبر أن الإنسان الذي لا يَحفظ حُرمة السبت وقداسته «ليس مؤهَّلاً لتقديم شهادة»


فضلاً عن ذلك، فإن الشريعة اليهودية تَعتبر أن الإنسان الذي لا يَحفظ حُرمة السبت وقداسته «ليس مؤهَّلاً لتقديم شهادة»، ما يعني، بحسب تريغر، أن «اليهودي المتديّن الحريدي، المتزمّت في حفْظ حُرمة السبت والالتزام بها، هو بنظر قضاة المحاكم الدينية اليهودية أكثر موثوقيّة وصدقيّة من أيّ يهودي آخر، سواءً كان علمانياً أو متديّناً وطنياً أو إصلاحياً». وعلى الرغم من أن الحاخامات الرئيسين أفتوا سابقاً بأنه «لا يمكن إلغاء أو رفْض شهادة رجل يهودي علماني» من أجل تمكين الرجال اليهود العلمانيين من المثول أمام المحاكم الدينية اليهودية، وخصوصاً في ملفّات الطلاق، فإن «التوجّه الأساسي الذي يعتمده قضاة المحاكم الدينية اليهودية، والذين هم من المتديّنين الحريديم في غالبيّتهم الساحقة، هو أن ثمّة فوارق في مستويات الموثوقية والصدقيّة بين الرجال الحريديم وغيرهم، فكيف إذا تحدّثنا عن غير اليهودي؟»، يتساءل تريغر. وبهذه المناسبة، ما الذي تقوله الشريعة اليهودية بشأن الأغيار؟ «غير اليهود هم مخلوقات شيطانية»، إذ «ليس بداخلها أيّ شيء جيّد على الإطلاق، فحتى الجنين اليهودي يختلف نوعياً عن الجنين غير اليهودي، كما أن وجود غير اليهودي هو مسألة غير جوهرية في الكون، فكلّ الخلق نشأ من أجل اليهودي فقط»، وفقاً لـ«حاتانيا»، الكتاب الشهير الذي تعتمده أكبر فروع «الحسيدية» اليهودية، حاباد. وهو عيّنة مجهرية من فظائع عظيمة تتفتّق عنها الشرائع والآداب التلمودية بحقّ البشر من غير اليهود.
بحسب موقع «هشومريم»، وهو كما يعرّف عن نفسه «مركز للإعلام والديموقراطية» ويقدّم تحقيقات استقصائية فريدة، فإنه وفقاً لـ«قانون التقاضي في المحاكم الدينية اليهودية» من عام 1953، «لا تمتلك هذه المحاكم أيّ صلاحية للنظر في خصومات ونزاعات مدنية ليست ناتجة أو مشتَقّة من قضايا الأحوال الشخصية التي تشمل مجالات قضائية عديدة وواسعة النطاق، أبرزها الزواج، الطلاق، الميراث، الوصاية وغيرها». ومع أنه في قضايا الأحوال الشخصية وما يترتّب عليها ويتفرّع منها، تكون، طبق تريغر، «للمحاكم الدينية اليهودية (كما للمحاكم الدينية الأخرى لدى الطوائف الأخرى) صلاحية حصرية للنظر والبتّ فيها»، فإنه «في بعض القضايا الأخرى مثل قضية الممتلكات، ثمّة ما يُعرف بـ»الصلاحية المُوازية» التي تستوجب قُضاة المحاكم الدينية الذين يَنظرون فيها مع الأخذ في الاعتبار القوانين الوضعية في دولة إسرائيل، وليس قوانين وأحكام الشريعة اليهودية فقط». وعليه، فإن تشريع البنود التي تتضمّنها الاتّفاقيات الائتلافية الجديدة، والتي تعطي المحاكم الدينية اليهودية مكانة مُساوية للمحاكم المدنيّة العادية، باعتبارها هيئات قضائية لها كامل الصلاحيات للنظر والبتّ في القضايا المدنية، أو حتى لمجرّد التحكيم فيها، من دون أن تكون في حاجة إلى إقرار قراراتها والتصديق عليها من قِبَل أيّ محكمة مدنية، يُعدّ وفق تريغر بمثابة «انقلاب حقيقي وجوهري».
ويتقاطع ذلك مع ما قاله الدكتور حنان مندل، من كلّية الحقوق في «أكاديمية أونو»، والذي فسّر سعي الأحزاب «الحريدية» إلى إقرار التشريعات الجديدة بأن «المحاكم الحاخامية لم تُمنح أبداً الاختصاص للنظر في مجالات القانون المدني»؛ حيث من دون موافقة المحكمة المدنية على قرارٍ أصدرتْه محكمة دينية، لا يمكن للحكم أن يُنفَّذ مثلاً ويُعمل به في الوزارات المختلفة. وردّاً على سؤال حول ما إنْ كان الإسرائيليون سيعارضون ذلك، رأى مندل أن «الجمهور لا يفهم معنى هذه التغيّرات. سيقولون: ما علاقة هذا بي، أنا لا أذهب إلى المحاكم الحاخامية أساساً. دعِ الأرثوذكس المتطرّفين يفعلون ما يريدون. وستقوم الحكومة أيضاً بتسويق هذا الادّعاء كجزء من ترويجها لحلّ يستهدف تخفيف العبء عن المحاكم، لأن المتديّنين سيذهبون إلى هناك بدلاً من المحاكم المدنية». لكن، بحسبه، «هذا ليس دقيقاً»؛ فأمام طوابير الطلاق، لن يكون أمام اليهود إلّا الذهاب إلى المحاكم الدينية. في المقابل، دافع الحاخام مردخاي بوغاييف، وهو قاضٍ مؤهّل من «الحاخامية الكبرى» لإسرائيل، ورئيس «معهد أسس القانون العِبري»، بأن «القانون العِبري مليء بالعدالة، لقد جاء من التوراة، التوراة شيء إلهي ولا يوجد شيء آخر أكثر عدلاً من كيف خلق الله العالم وفق هذه القواعد. لا يوجد سبب لنا للاعتماد على الأساليب القانونية للشعوب التي حكمتْنا في الماضي. بالرغم من كلّ الآلام التي تعانيها فئات المجتمع الإسرائيلي كافّة، لا يوجد سبب لعدم منْح إمكانية لِمَن يريد التقاضي بهذه الطريقة، هذه عودة إلى تراثنا، وبعد كلّ شيء، هذا ليس إكراهاً دينياً».
أمّا المستوى الثاني الذي سيطاله الإكراه الديني، فيشمل «الأغيار»، أي فلسطينيّي الـ48، وبقيّة «مُواطني» إسرائيل على اختلاف طوائفهم. وفي هذا المجال، تشير البروفسور روت هلبرين - قادري، من كلّية الحقوق في «جامعة بار إيلان»، ورئيسة «تحالف المنظّمات المُعارِضة»، إلى أن البنود التشريعية المقترَحة في الاتّفاقيات الائتلافية الجديدة «لا تتطرّق سوى إلى اليهود ومحاكمهم الدينية»، وذلك بحسبها «امتياز مدعوم بتمويل حكومي يُمنح لليهود فقط». وعليه، تتساءل: «ماذا عن أبناء الطوائف الدينية الأخرى الذين يريدون التقاضي في محاكم دينية ووفقاً لأحكام شرائعهم الدينية؟»، لتجيب بأنه «يكفي بأن يكون أحد أطراف النزاع يهودياً لكي يُنقل التقاضي بين المتنازعين إلى المحكمة الدينية اليهودية». وتستنكر في حديثها إلى «هشومريم» قائلةً: «هل تستوعبون هذا العبث؟ أن تُفرض الشريعة اليهودية وأحكامها على شخص غير يهودي، وهو لمجرّد كونه من الأغيار، يُعتبر في نظر المحكمة الدينية اليهودية بمكانة متدنّية أصلاً».