التقى القادة الأفارقة، في الـ18 من الجاري، في عاصمتهم المفضَّلة أديس أبابا، لمناقشة عدد من التحدّيات التي تُواجه قارّتهم، وسط موجة جفاف غير مسبوقة منذ أربعة عقود في القرن الأفريقي، وتصاعُد الاضطرابات في إقليم الساحل، واستمرار العنف في شرقيّ الكونغو وتهديده بالتمدّد إلى عدد من دول الجوار، فضلاً عن الاختلال المتزايد في مواجهة الأزمة التي حملت القمّة عنوانها: عدم الأمن الغذائي. وبينما طرح رئيس المفوضية الأفريقية، موسى فقي، أفكاراً غير واقعية بخصوص مواجهة التراجع الديموقراطي في القارّة، واقترح تقوية العقوبات «ضدّ التغييرات غير الدستورية»، لم يشهد مسار تطبيق اتّفاق منطقة التجارة الأفريقية الحرّة اختراقاً حقيقياً نحو هدف تحقيق نسبة 60% في التجارة البينية بحلول عام 2034 (تقف النسبة حالياً عند 15% فقط)، وهو الحال الذي يسري على مسألة إلغاء ديون الدول الأفريقية، ومسار إصلاح مؤسّسات الاتحاد الأفريقي الذي يتولّى إدارته الرئيس الرواندي، بول كاجامي، الذي تتّهمه كينشاسا رسمياً بدعم جماعات وأنشطة إرهابية في شرقيّ البلاد. ووسط هذه الحالة النمطية من مراوحة القضايا الأفريقية في مساحاتها الضيّقة، شهدت القمّة حدثها الاستثنائي المتمثّل في طرْد وفد إسرائيل الذي دخل إلى مقرّ اجتماعاتها من دون ترتيبات رسمية، في وقت أعيدَ فيه تسليط الضوء على عمل اللجنة المكلَّفة مناقشة «العضوية» الإسرائيلية في الاتحاد، والمكوَّنة من رؤساء جنوب أفريقيا والجزائر ونيجيريا (الرافضة للعضوية) ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون (الداعمة للعضوية) والسنغال التي تولّت في العام الماضي رئاسة التكتّل، قبل تقلُّد الرئيس القمري، غزالي عثماني، قيادته في الدورة الحالية.
إسرائيل في القمّة: الضيف الثقيل
باتت القمّة الأفريقية السنوية محلّ اهتمام القوى الدولية والإقليمية، التي دشّن العديد منها، منذ مطلع العام الجاري، ديبلوماسية نشِطة في القارة على خطّ استباق الفعّالية واستشراف نقاشاتها. هذا ما فعلتْه مثلاً الولايات المتحدة، التي أرسلت وفداً ضخماً (نحو مائة فرد) بقيادة مساعِدة وزير الخارجية، مولي في، والمبعوث الخاص للرئيس جو بايدن، جوني كارسون، الذي لاحظت منافذ إعلامية إسرائيلية حضوره واقعة طرْد الوفد الإسرائيلي بقيادة شارون بار-لي (نائبة المدير العام في وزارة الخارجية لشؤون أفريقيا)، والتزامه الصمت التامّ حيالها. ورأت أوساط إسرائيلية في الواقعة، على رغم التصديق على وضْع إسرائيل مراقباً في الاتحاد وحصول وفدها على بطاقات الحضور بالفعل، دلالة على «أسْر التكتّل من قِبل قلّة من الدول المتطرّفة من مِثل الجزائر وجنوب أفريقيا، المدفوعة بالكراهية والخاضعة لسيطرة إيران»، فيما دعا الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية، ليور هيات، الدول الأفريقية، إلى الوقوف ضدّ هذه التصرّفات التي «تضرّ الاتحاد الأفريقي والقارّة الأفريقية بأكملها». وفي اليوم نفسه، أعلنت الخارجية الإسرائيلية استدعاء القائم بأعمال السفارة الجنوب أفريقية، لتوبيخه من قِبَل رونين ليفي، المدير العام للوزارة، معتبرةً أنه «ليس ثمّة أساس في قواعد المنظّمة لمحاولة إلغاء وضع مراقب (لإسرائيل)، في ظلّ تمتُّع الأخيرة بأغلبية واضحة داعمة لوضعها». وجاءت هذه التطوّرات في وقت يسعى فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المتعمّق في أحوال القارة الأفريقية ونُظمها منذ عقود، لتقوية علاقات الكيان بدول القارّة كأحد أبرز بنود أجندة سياساته الخارجية، وفق ما اتّضح مثلاً، مطلع الجاري، في استقباله الرئيس التشادي، محمد إدريس ديبي، في تل أبيب، لافتتاح سفارة تشاد رسمياً هناك، في خطوة عُدّت «تاريخية» لِما للبلد الأفريقي من أهمية كبيرة في صياغة الأمن الإقليمي في الساحل ووسط أفريقيا وغربها.
تُعوّل إسرائيل، في سياساتها الراهنة، على دول أفريقية عدّة تدعم حضورها بشكل تامّ ومعلَن


أذرع إسرائيل: الروابط والمسوّغات
تُعوّل إسرائيل، في سياساتها الراهنة، على دول أفريقية عدّة تدعم حضورها بشكل تامّ ومعلَن. وعلى رأس تلك الدول، تأتي رواندا أو «إسرائيل أفريقيا» كما يحلو لوسائل الإعلام الصهيونية وصفُها، والتي تطوّرت علاقاتها بالكيان الصهيوني منذ افتتاحه سفارة في كيجالي قبل ثلاثة أعوام (شباط 2019)، تتويجاً لروابط وثيقة مع قائد جيش التوتسي، بول كاجامي، الذي تمكّن من هزيمة حكومة الهوتو عام 1994، وتَقلّد مذّاك قيادة البلاد طوال نحو ثلاثة عقود. وفعّل كاجامي، خلال فترة حُكمه، خُطط عمل موسّعة لخدمة المصالح الإسرائيلية في القارّة، مِن مِثل الدفع بأعداد كبيرة من المهاجرين الأفارقة إلى إسرائيل (وفق اتّفاق تمّ التوصّل إليه بين الحكومتَين وتفعيله في عام 2017)، واستقطاب مشروعات تعاونية لوزارة الخارجية الإسرائيلية أو القطاع الخاص الإسرائيلي إلى رواندا، على رغم تضاؤل حجم التجارة الثنائية بين البلدَين. كذلك، نجحت إسرائيل في تمتين علاقاتها مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، جارة رواندا الكبرى، منذ نهاية عام 2022، لا سيما في مجال التعاون العسكري والأمني وتزويد كينشاسا بـ«الدرونز»، والشراكة في مجال الاستخبارات بجهد مباشر من ديفيد بارنيا، رئيس جهاز «الموساد»، لتعويض التداعيات السلبية لثلاث زيارات «غير رسمية» قام بها رئيس «الموساد» الأسبق، يوسي كوهين، للكونغو، وانتهت بترحيل الأخيرة له على خلفيّة اتّهامه بالإعداد لانقلاب ضدّ الرئيس فيلكس تشيسيكيدي (2019).
أمّا الكاميرون، التي يقيم رئيسها الحالي بول بيا (يقود بلاده منذ تشرين الثاني 1982) علاقات ديبلوماسية مميّزة مع إسرائيل منذ نحو أربعة عقود من دون أيّ انقطاع، فإنها ترتبط بالكيان بقوّة في قطاع الأمن الذي يصفه مراقبون بأنه يخضع بالكامل للسيطرة الإسرائيلية نتيجة لعوامل عدّة من بينها تشكّك دائم من قِبَل بيا تجاه الاستخبارات الفرنسية، منذ تدبيرها (1984) انقلاباً ضدّه أوشك أن يُسقطه بالفعل. وتتّضح وثاقة الصلة الإسرائيلية بالكاميرون في إشارة تحقيقات «سرّية» (نهاية كانون الثاني 2023) إلى تورُّط تل أبيب في قتْل الصحافي الكاميروني المُعارِض، مارتينيز زوجو (22 كانون الثاني)، والذي ينبئ باستمرار هيمنة الأجهزة الإسرائيلية، التي تدير أيضاً تدريبات القوّات الخاصة التابعة لبيا، على الوضع الأمني والعسكري في الكاميرون طوال العقود الفائتة، ويبرّر دعم ياوندي المطلَق - ضمن أسباب أخرى - لقبول إسرائيل مراقباً في الاتحاد الأفريقي.

جنوب أفريقيا والجزائر و«جبهة الرفض»
كشف بيان فقي (18 الجاري)، حول طرْد الوفد الإسرائيلي، عن تَغيّر في موقف الاتحاد الأفريقي ورئيس مفوضيته نفسه (الذي هندس قبل عامَين التحاق إسرائيل بالمنظّمة القارّية كمراقب). إذ أكّد أن الاتحاد لم يُوجّه دعوة إلى إسرائيل لحضور القمّة، وأن قرار التكتّل في العام الماضي تكوين لجنة لمناقشة المسألة «يعني أن الوضع قد عُلّق حتى قيام هذه اللجنة بفحص الأمر». وتَوازى هذا الموقف مع تكثيف «جبهة الرفض» الأفريقية، والتي تضمّ جنوب أفريقيا والجزائر بالدرجة الأولى، جهودها، ابتداءً من الـ22 من الجاري، في وجه إسرائيل، عبر دعوتها الدول الأعضاء إلى «قطْع صِلاتها العلمية أو الثقافية» معها، حتى تُوقف الدولة العِبرية ممارساتها الاستعمارية ضدّ الفلسطينيين، في ما يمثّل عودة واضحة إلى السياسة الأفريقية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية، على الأقلّ رمزياً في هذه المرحلة.
وعلى رغم مواصلة إسرائيل مساعيها لاختراق القارّة من بوّابات كثيرة، وتمكّنها من ترتيب علاقات خاصة مع عدد من نُظُم الحُكم فيها تَمثّلت بعض وجوهها في توفير الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لتلك النُظم أدوات رقابة لصيقة على المعارضة ومساعدتها في مأسسة الاستبداد بشكل عام، إلّا أن صوت «جبهة الرفض» لا يزال عالياً بنبذ تطبيع النفوذ الإسرائيلي في الاتّحاد الأفريقي وانعكاساته بعيدة المدى (من قَبيل شرعنة السياسات الإسرائيلية بشكل غير مسبوق داخل الدول الأفريقية، ومنْح الديبلوماسيين الإسرائيليين فرصة المشاركة في اجتماعات الاتحاد رفيعة المستوى والضغط لصالح سياسات بعينها). وفي هذا الإطار، أعادت بريتوريا تأكيد موقفها الرافض لذلك النفوذ «لقناعتها بأن الاحتلال المستمرّ لأراضي الشعب الفلسطيني، وبناء مستوطنات جديدة، والقيود على حركة الفلسطينيين، كلّها تمثّل انتهاكات لمضامين ميثاق الاتحاد الأفريقي». أمّا الجزائر، التي تبنّت منذ البداية موقفاً واضحاً وصارماً للغاية ضدّ منْح إسرائيل وضْع مُراقب، فإنها تتحرّك - كما هو بادٍ - من منطلق التزامات محدّدة في سياساتها الخارجية الأفريقية، مُكثّفةً منذ عامَين تقريباً جهودها اللصيقة مع جنوب أفريقيا للحيلولة دون تمكُّن دولة الاحتلال من تثبيت «عضويّتها»، وهو ما أثبتَ نجاحاً في الجولة الحالية.

خلاصة
لا يُتوقّع أن تتجاهل حكومة نتنياهو الخطوة الأفريقية الأخيرة، لا سيما مع صمْت دول أفريقية كبيرة إزاء المسألة برمّتها. لكن الشاهد حتى الآن، أن بريتوريا والجزائر قد نجحتا في «قلْب الطاولة»، ولو مؤقّتاً، على مساعي إسرائيل لاقتحام أفريقيا من بابها الواسع: الاتحاد الأفريقي. وهو نجاحٌ حفّز، على ما يبدو، مصر على تصعيد مطالباتها بإصلاحات في مجلس السلم والأمن ومراعاة تمثيل شمال أفريقيا فيه تمثيلاً ملائماً، تمهيداً لإصلاح دولاب عمل الاتحاد بأكمله، وضمان مأسسة العمل وعدم خضوعه لمصالح رؤساء دول تتحرّك بـ«الوكالة» لفائدة إسرائيل في القارّة، أو نافذين من غير دول. غير أنه لا ينتظَر نجاح هذا المسار من دون أن تنخرط فيه الدول الكبيرة «الصامتة»، لحسابات يَجدر أن تكون أقلّ تعقيداً، وأكثر حساسية لمصالح الأمن القومي الأفريقي المباشرة.