باستثناء التحذيرات المتواترة، والصادرة في مجملها من واشنطن، بدا احتمال إطلاق غزو، مطلع عام 2022، مؤجّلاً إنْ لم يكن بعيداً، حتى إن كثيرين ظنّوا أن حلّاً سيكون في متناول اليد. ظلّت موسكو، من جهتها، على رغم الحشود العسكرية الهائلة التي كانت تطوف الحدود الروسية - الأوكرانية، تُكذّب التحذيرات. لكن سيتّضح في ما بعد أن الحرب التي صارت واقعاً، أبعد بكثير من كونها رسالة إنذار خاطفة، أو من كوْن أطرافها قادرين على حسْم سريع. وإلى أن تتحدَّد هويّة الرابح، فإن لسان حال كييف كما موسكو: «سننتصر»، مهما بلغنا من صعاب. على مدى عام كامل، مثّلت هذه الحرب الحدث الدوليّ الأضخم، ذلك أن ما سيترتّب عليها من نتائج، سيحدِّد شكلاً آخر للنظام الدولي. لهذا، «كان الغرب المُدافعَ عن أوكرانيا، وملجأها، وترسانتها، ومصرفها، إن لم يكن حليفها العسكري الكامل»، والتعبير لجيمس ميك في «غارديان». ولكن السؤال الذي يتعيّن طرْحه مع دخول الحرب عامها الثاني، هو عن المدى الذي سيذهب إليه الغرب دفاعاً عن أوكرانيا، وعن الحلول المقبولة لنهايتها.
ليست حرباً شاملة
سعت روسيا، في بداية الحرب، إلى «القبض على أوكرانيا على حين غرّة»، مستعينةً بجيش حديث شارك في بعض المناورات سريعة الحركة والتي افتُرض أن من شأنها أن تسفر عن نصر سريع وحاسم. لكن جيشها أصبح، مع مرور الوقت، أكثر اعتماداً على وابل المدفعية، وهجمات المشاة الجماعية، لتحقيق اختراقات في ساحة المعركة مع تصعيد هجماته على المدن الأوكرانية. يشرح لورانس فريدمان، في مقالته المنشورة في «فورين أفيرز» بعنوان «كييف وموسكو تخوضان حربَين مختلفتَين»، باستفاضة، كيف تباعدت استراتيجيات روسيا وأوكرانيا بشكل متزايد؛ ويرى أن كييف كانت «أكثر ابتكاراً في تكتيكاتها، وأكثر انضباطاً في تنفيذها. وبمساعدة إمدادات السلاح الغربي والقيادة الرشيقة، تمكّنت من استعادة بعض المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية»، وخصوصاً خاركيف وخيرسون، لكنها كانت تقاتل فقط على أراضيها. وعلى رغم إسباغه صفة «الحرب الشاملة» على المقاربة التي تتبنّاها روسيا في الحرب، و«الحرب الكلاسيكية» على تلك التي تنتهجها أوكرانيا، يخلص الكاتب إلى أن موسكو لا تسعى إلى حرب شاملة، ذلك أنها «امتنعت عن استخدام الأسلحة النووية - الرموز النهائية للحرب الشاملة المعاصرة». ففي بدايتها، لوّح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالردع النووي، لتحذير دول «الناتو» من التدخّل المباشر. وفي الوقت نفسه، بدا أن رغبته في تجنّب حرب مباشرة مع الحلف، «منعتْه من استخدام السلاح النووي على نطاق أصغر داخل أوكرانيا، ومن إصدار الأوامر بشنّ هجمات على دول «الناتو» المجاورة». لكن، سواء استمرّت الحرب في أوكرانيا لأشهر أو سنوات، ستستمرّ الأسلحة النووية في الظهور في خلفية الصراع، وفق هيذر ويليامز، مديرة مشروع القضايا النووية في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، لأن الرئيس الروسي «اعتمد على التهديدات النووية لسببَين رئيسَين: أولّهما، ردع «الناتو» عن التدخّل المباشر في أوكرانيا؛ وثانيهما أكثر خطورة: فمن خلال إبداء استعداده لاستخدام الأسلحة النووية، يشير بوتين أيضاً إلى التزامه بالانتصار في الحرب بأيّ ثمن».

النفوذ لم يَعُد حكراً على أميركا
مع مضيّ العام الأوّل، أصبح الرأي القائل إن «مناطق النفوذ» شيء من الماضي، منتشر على نطاق واسع، والإشارة لإيما آشفورد، في «فورين أفيرز». بالنسبة إلى العديد من المعلّقين الأميركيين، مثّل ردّ جو بايدن على الحرب، «أكبر انتصار للسياسة الخارجية الأميركية»، تضمين «استراتيجية الأمن القومي» الصادرة عن البيت الأبيض في تشرين الأول الماضي، إشارة إلى «(أنّنا) نقود ردّاً موحّداً ومبدئيّاً وحازماً على الغزو الروسي، وقد حشَدْنا العالم لدعْم الشعب الأوكراني». تُمثّل الحرب في أوكرانيا، كما تراها آشفورد، «إخفاقاً واضحاً لقرارات السياسة الخارجية الأميركية»، إذ «من المؤكد أنها أَظهرت استعداد الغرب لمواجهة عودة سياسات القوّة، لكنها جلّت أيضاً القيود العمليّة لتلك الاستراتيجية. لم يكن العام الماضي تفنيداً لمنافسة القوى العظمى أو مجالات النفوذ، كما يصفها البعض، بل كان عرضاً لما تبدو عليه كل هذه الأمور في الممارسة». ومع دخول أميركا فترة من الخلاف المتزايد حول حدود مجال النفوذ الغربي، وكيفية تفاعلها مع مجالات نفوذ كلّ من روسيا والصين، يصبح، بحسب الكاتبة، «تعلُّم الدروس الصحيحة من أوكرانيا أكثر إلحاحاً».
قبل بدء الحرب، كان بايدن قد قرّر أن تكلفة قتال روسيا مباشرة ستكون باهظة للغاية؛ وتحدّث مسؤولو إدارته بشكل علني عن تسليح تمرُّد أوكراني في المستقبل، بعد انتصار روسي متوقّع على نطاق واسع. ومع هذا، تتساءل الكاتبة: «إذا كانوا يعلمون طوال الوقت أن احتمالات منْع الصراع تتضاءل، وأن الولايات المتحدة لن تشارك بشكل مباشر فيه، فلماذا لم يفكّروا في خيارات السياسة الأخرى: مثل عرْض وقْف اختياري لقبول أوكرانيا في «الناتو»؟». أصبح، اعتباراً من عام 2014، مفهوماً بين نخب السياسة الخارجية الأميركية أن عضوية أوكرانيا وجورجيا في «الأطلسي» «طموحة أكثر من كونها عملية». ويمكن في هذا السياق، الاستدلال بما قاله الباحث مايكل أوهانلون، في شباط من العام الماضي، قبل أسابيع من الغزو: «القول إن أوكرانيا لن تنضمّ إلى حلف الناتو قريباً (إنْ حدث) لا يُعدّ تنازلاً لبوتين، لكنه اعتراف بالواقع». ولكن حتى مع اقتراب الحرب، لم يكن صنّاع السياسة الأميركيون مستعدّين للاعتراف بهذه الحقيقة، وهم أوضحوا مراراً أنهم لن يناقشوا سياسة «الباب المفتوح» التي يتبعها «الناتو» مع روسيا. وحين سُئل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قبل أسابيع قليلة من الغزو، عن هذه السياسة، أجاب: «لن يكون هناك تغيير... هناك مبادئ أساسية نلتزم بدعمها والدفاع عنها»، بما في ذلك «حقّ الدول في اختيار ترتيباتها الأمنية وتحالفاتها».
تسلّط الحرب في أوكرانيا الضوء على كلفة «منافسة القوى العظمى» إذا أديرت بشكل سيئ، و«يَظهر احتمال وقوع كارثة إذا لم يتمكّن صانعو السياسة في الولايات المتحدة من تجاوز عقليتهم أحادية القطب»، تضيف آشفورد. وبالمعنى الأوسع، تعني الحرب عودة التنافس على مجالات النفوذ في السياسة الدولية. لكن ثمة سوء فهم واضحاً؛ فمجال النفوذ ليس نوعاً من المجاملة التي تقدّمها قوّة عظمى إلى أخرى على رؤوس الدول الأصغر والأكثر ضعفاً. غالباً ما تكون مجرّد حقيقة، تأكيداً للجغرافيا والقوّة. مجال النفوذ هو ببساطة مكان تؤكد فيه قوّة عظمى هيمنتها، في مقابل أخرى تخشى أو لا ترغب في تحدّيها لأن التكاليف المتصوَّرة باهظة للغاية. يقترح بعض المعلّقين أنه «لا يمكننا قبول مثل هذه الترتيبات، بحجّة أن العالم قد تجاوز هذه الأفكار الاستعمارية القديمة إلى عصر أكثر استنارة». لكن الأمور أبسط. خلال اللحظة أحادية القطب، وهي فترة الهيمنة الأميركية العالمية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، لم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى الاهتمام كثيراً بمسألة مجالات النفوذ، لأن قوّتها لم تكن محلّ اعتراض. عبّر العالِم السياسي، غراهام أليسون، عن الأمر بإيجاز: «لقد توقّف صانعو السياسة في الولايات المتحدة عن التعرّف إلى مجالات النفوذ ليس لأنّه مفهوم عفا عليه الزمن، ولكن لأن العالم بأسره أصبح مجال نفوذ أميركياً بحكم الواقع». ويدخل العالم اليوم فترة من الخلاف حول حدود القوّة الأميركية، حيث أصبحت روسيا والصين قادرتَين بشكل متزايد على فرض مصالحهما الخاصة في المناطق الأقرب إلى حدودهما.

مفاوضات... بالطبع
في تقريرها بعنوان «تجنُّب حرب طويلة: سياسة الولايات المتحدة ومسار الصراع بين روسيا وأوكرانيا»، تلفت مؤسّسة «راند» إلى أنه «كلّما طال أمد الحرب، زاد احتمال التصعيد الذي قد يضع روسيا في صراع مباشر مع «الناتو»»، داعية القوى الغربية إلى فعْل المزيد من أجل دفْع الأطراف المتحاربين إلى طاولة المحادثات. ويوضح كاتبا التقرير، وهما عالما السياسة صموئيل شاراب وميراندا بريبي، العوامل الهيكلية المقلقة للحرب: «ليس لدى روسيا ولا أوكرانيا فرصة لتحقيق النصر المطلق»، فيما يثير إيشان ثارور وسامي ويستفول، في «واشنطن بوست»، «حالة الارتياب التي تلوح في الأفق حول المدّة التي يمكن أن يستمرّ فيها الغرب في تقديم المساعدات والأسلحة إلى أوكرانيا»، ولا سيما أن استطلاعاً حديثاً لمؤسسة «بيو» أَظهر أن هناك «تململاً» في المجتمعات الغربية، وأن مزيداً من الأميركيين والأوروبيين يعتقدون بالفعل أن بلادهم تقدّم الكثير لكييف. ويلفت شاراب وبريبي إلى أن خطر اندلاع «حرب ساخنة مع دولة لديها أكبر ترسانة نووية في العالم»، قد يؤدّي إلى تصعيد الأعمال العدائية لدفع دول «الناتو» إلى مواجهة مفتوحة مع روسيا: «الحفاظ على حرب بين روسيا والناتو دون العتبة النووية سيكون أمراً بالغ الصعوبة، ولا سيما بالنظر إلى الحالة الضعيفة للجيش الروسى التقليدي. فإذا خلص الكرملين إلى أن الأمن القومي للبلاد معرّض لخطر شديد، ربّما يلجأ إلى التصعيد بشكل متعمّد بسبب عدم وجود بدائل أفضل».
أحد المحدّدات، كما يرسمها الخبير الاستراتيجي، إليوت كوهين، هو كيفية وضع نهاية واضحة للحرب؛ «الحكمة التقليدية تقول: مفاوضات، بالطبع. وهذا ما قاله رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال مارك ميلي، والعديد من المسؤولين في الولايات المتحدة خلال العام الأوّل للحرب». لكن جلوس القادة المرهَقين إلى طاولة المفاوضات، قد تتأتّى عنه ثلاث نتائج تحمل تأثيرات مختلفة على الصراع، إذ يمكن أن تكون المفاوضات «عبارة عن اتفاق على بنود الاستسلام»، أو «محاولة للتوصل إلى وقف إطلاق النار» (يؤدّي فقط إلى استراحة مؤقّتة)، أو «مفاوضات سلام واسعة تنتج اتفاق سلام حاسم». فإذا تباطأ الغرب في تسليح أوكرانيا، «ستزحف كييف بضجر إلى الطاولة»، ولكن «إذا استمرّ الدعم الخارجي بقوّة لكييف، وحافظ الأوكرانيون على قدرتهم الهائلة على التكيّف ومواصلة القتال، ورأت روسيا انهيارات في قوّتها، ونجح الغرب عبر خطوط الاتصال معها، في تحييد التهديدات النووية»، يمكن أن تلجأ إلى التفاوض. لكن ثمةَ سيناريوَين واضحَين لأيّ عمليّة تفاوض بين كييف وموسكو: «أوّلهما، التوصّل إلى حلّ وسط يكون أساساً لسلام صامد؛ وثانيهما، وهو الأكثر رجحاناً، أن تفضي المفاوضات إلى وقف لإطلاق النار»؛ أي تجميد الصراع العسكري لفترة من الزمن.