لندن | أحدثت الحرب الروسية على أوكرانيا تغييرات دراماتيكية في المشهد الأوروبي. تخلّت بريطانيا، بين ليلة وضُحاها، عن مصالحها المالية الهائلة والمتشابكة مع الأوليغارشية الروسية؛ وأنهت ألمانيا عقوداً من الاعتماد على الطاقة الروسية الرخيصة التي مكّنتها من تحقيق فورة اقتصادية ملموسة، واختارت - بعد التزام سياسة دفاعية حذِرة ومكبَّلة منذ سقوط برلين في عام 1945 - طريق العسكرة؛ وألغت فرنسا كلّ سعي لسياسة أوروبية مستقلّة عن «حلف شمال الأطلسي» وتحوّلت إلى رأس حربة للأخير، فيما سارعت دول ذات تاريخ طويل في الحياد مِن مِثل فنلندا والسويد إلى التقدّم بطلبات للالتحاق بـ«الناتو». وحتى الدول التي كانت قياداتها على علاقات وديّة مع موسكو، اصطفّت جميعها، على اختلاف ألوان حكوماتها وتبايُن مواقفها من العديد من القضايا، صفّاً واحداً في فرْض تسع رُزم من العقوبات الصارمة على روسيا، والتزمت جميعها بحصار متدحرج ضدّها، بينما دعمت النظام الأوكراني اليمينيّ بمليارات الدولارات، وأسلحة فتّاكة، ووفّرت له خدمات لوجستية، واستوعبت ملايين الأوكران اللاجئين، وفرضت سرديّة داعمة للحرب على كلّ وسائل الإعلام الجماهيري فيها. وعلى عكْس بعض التوقّعات، فقد صمدت هذه «الوحدة» الأوروبية لاثنَي عشر شهراً، من دون أن تَظهر إشارات إلى الآن إلى حدوث تصدّعات كبرى، على الرغم من اهتزاز أمن الطاقة، والارتفاع الهائل في تكلفة المعيشة، ومخاطر الركود، والتكاليف الاستثنائية لتمويل آلة الحرب الأوكرانية، وتجدُّد أزمة اللجوء، فضلاً عن الخلافات المستمرّة بين تيّارات اليمين المتطرّف الصاعدة والوسطيين الليبراليين حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية، سواء على مستوى الحكومات، أو داخل المجتمعات نفسها. ويفسّر الليبراليون هذا الصمود بالكفاءة البنيوية للاقتصادات الأوروبية، ومرونة الأنظمة الديموقراطية في القارّة وقدرة شعوبها على التكيّف واستعدادها لدعم حكوماتها في مواجهة الشدائد، وبيروقراطية الاتحاد الأوروبي التي تتيح آلية فاعلة لاتّخاذ القرار، إضافة بالطبع إلى ما يُنظر إليه على أنه عودةٌ للولايات المتحدة إلى لعِب دور أكثر فاعلية في الشأن العالمي، وتوفيرها مظلّة حماية لأوروبا في مواجهة «الغطرسة» الروسية.
على أن الواقع لا يدعم ذلك التفسير إلّا جزئياً؛ إذ يَجري إغفال حقيقة هيمنة الولايات المتحدة على الشأن الأوروبي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، سواء عبر الوجود العسكري والمخابراتي الكثيف في غير ما بلد أوروبي، أو من طريق اندراج الأوروبيين ضمن المنظومة الرأسمالية المعولَمة التي تديرها نُخبة واشنطن، فضلاً عن تغلغُل الأخيرة في الأجهزة الإعلامية والثقافية والأكاديمية في أغلب دول القارّة. وإذا أضيفَ إلى ما تَقدّم أن النُّخب البرجوازية الأوروبية استفادت بشكل أو بآخر من الحرب على الصعيد الاقتصادي بوصفها تحتكر صناعات الطاقة والسلاح واللوجستيات، يتبيّن أن «الوحدة» في مواجهة روسيا لم تكن خياراً، بقدر ما هي نتيجة حتمية لعقود طويلة من مساعي «أمْركة» أوروبا، والتي اتّخذت أبعاداً أوسع وأعْقد وأعمق بعد سقوط جدار برلين، وانهيار الاتّحاد السوفياتي. وعلى أيّ حال، فإن هذه «الوحدة» مكّنت نظام كييف من الصمود في وجه الآلة الحربية الروسية على رغم الخسائر الباهظة التي تكبّدها، ورفَعت من تكلفة الحرب بالنسبة إلى موسكو، كما وأطالت طريقها إلى تحقيق أهدافها، فضلاً عن أنها سمحت إلى حدّ كبير بتجاوز المجتمعات الأوروبية لخطر الركود الاقتصادي، وبناء نسَق بديل للحصول على إمدادات الطاقة بعيداً عن روسيا.
الوقت، وإنْ كان بشكلٍ ما يخدم الأغراض الأميركية، إلّا أنه حتماً ليس إلى جانب الأوروبيين


لكنّ السؤال الآن هو: هل ستستمرّ الوحدة الأوروبية بلا تصدّعات؟ الواقع أن ثمّة غيوماً داكنة كثيرة تملأ سماء أوروبا مع دخول الصراع عامه الثاني. فمن الواضح أن الحرب لم تنتهِ بعد، بل ومرشّحة للانتقال تالياً إلى مرحلة أكثر خطورة، إذ أعادت القوّات الروسية تجميع صفوفها وعزّزت تسليحها، وقد يكون هجومها الربيعي المتوقّع على طول الجبهتَين الشرقية أو الجنوبية، أو ربّما عبر بيلاروسيا أو مولدافيا، أمراً مفروغاً منه. في المقابل، بات واضحاً أن القوّات الأوكرانية، على رغم استعدادها للحرب لأكثر من ثماني سنوات، والدعم الذي تتلقّاه يومياً من الحلفاء، باتت مرهَقة من القتال، وأصيبت بخسائر بشرية فادحة يَصعب تعويضها، كما وأنها تتراجع تدريجياً في مواقع رئيسة. وعلى رغم التعهّدات الغربية بإمدادها بالمزيد من الأسلحة وأنظمة الدفاع الجوّي والدبابات المتطوّرة، إلّا أن هذه الإمدادات لا تزال بطيئة في الدخول إلى حيّز الخدمة الفعلية، فيما لا تتوافر لدى الجيش الأوكراني طائرات مقاتلة أو صواريخ استراتيجية. وعليه، فإن الحرب قد تنقلب من حال تَقرُب التعادل في ظلّ معارك السلاح التقليدي الحالية، إلى انتصار روسي ولو بالنقاط، الأمر الذي قد يعني انفراط سُبحة الوحدة الأوروبية تحت ضغط معضلة الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع موسكو، ستمتدّ سريعاً عبر البلقان وبولندا إلى قلب القارّة - ولا تبدو أوروبا بأيّ شكل قادرة على خوضها عسكرياً واجتماعياً -، أو السعيّ للتوصّل إلى تفاهم ما معها، ولو على حساب كييف، وببعض التنازلات.
من ناحية أخرى، فإن الوقت، وإنْ كان بشكلٍ ما يخدم الأغراض الأميركية، إلّا أنه حتماً ليس إلى جانب الأوروبيين. فـ«التلفيق» الاقتصادي وطبْع العُملات والدعم الحكومي للطبقات الوسطى لمواجهة تكاليف ارتفاع المعيشة، كل ذلك سيصل في النهاية إلى حدوده القصوى، ويبدأ في قضْم مستويات الرفاهية التي اعتادتْها الشعوب الأوروبية. كذلك، سيؤدّي ارتفاع تكلفة الطاقة إلى انهيار المنصّة التي مكّنت الأوروبيين من بناء قاعدة صناعات تصديرية من الدرجة الأولى، فيما سيكون من الصعب الاعتماد على توسيع التبادل التجاري مع دول الجنوب التي لم ينخرط الكثير منها مِن مِثل الهند والأرجنتين ودول القارّة الأفريقية في الحصار الغربي المفروض على روسيا. أيضاً، لن يمكن بالضرورة الاحتفاظ بصبر الطبقات الشعبية التي تتعرّض لمزيد من الإفقار بسبب تكاليف الحرب. أمّا السيناريو الأسوأ، فيتمثّل في توسُّع ملعب الحرب الأميركية - الروسية على حساب أوروبا بداية ووسطاً ونهاية، وهو ما ستكون نتائجه وخيمة على الشعوب الأوروبية أساساً، قبل بقيّة العالم برمّته.
على أن الأمور لم تصل إلى هناك بعد، وقد لا تصل إليه أبداً، خصوصاً أنه لا تزال في جُعبة الأوروبيين بقيّة من القدرة على المناورة. لكن في الوقت الحالي، وفي ظلّ اعتزام الجانبَين الأميركي والروسي تعزيز مواقفهما من خلال النجاحات العسكرية في أوكرانيا، فسوف تستمرّ الحرب. والحرب دائماً تَفرض منطقها الخاص، ولا تَعبأ بكلّ التوقعات. فالأداء في الماضي، كما يدرِك المستثمرون والمقامرون، ليس ضمانة بأيّ صيغة للأداء في المستقبل. ومن دون عقلاء، فإن أيّ قارّة، مهما كانت منيعة وثريّة (وبيضاء)، ستُنهكها الحرب إن اندلعت على أرضها.