على رغم الاستعراض الذي رافق زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لأوكرانيا، والتي جاءت بعد نحو عام على بدء الحرب، ثمّة مَن ينظر إليها على أنها محض «شكليّة»، والوعود التي أغدقها الرئيس الديموقراطي على قادة كييف في خلالها، من قَبيل أن الولايات المتحدة «ستقف إلى جانبكم مهما طال الأمر»، باعتبارها هي الأخرى غير واقعية. ويعزّز الاستنتاج المتقدّم، ما سُرِّب عبر وسائل الإعلام الأميركية من حالة تململ في صفوف الإدارة نفسها، وفي أوساط خصومها الجمهوريين، فضلاً عن المعسكر الغربي برمّته، إزاء الدعم اللامحدود لأوكرانيا، وإمكانية استمراره إلى ما لا نهاية، واحتمال استفادة روسيا من حرب استنزاف يتّضح يوماً بعد آخر أن الولايات المتحدة لا تجد مانعاً من تأجيجها
في مقابل «تعظيم» بعض وسائل الإعلام الغربية زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الخاطفة والبالغة السريّة لكييف، ووصْفها بـ«غير المسبوقة»، و«الصفعة الموجّهة إلى روسيا»، والتي تلتْها زيارته للعاصمة البولندية وارسو، إلّا أن بعض «التسريبات» التي سبقت الزيارتَين ناقضت هذه التوصيفات ومعها تصريحات بايدن، من أن «كييف أقوى من أيّ وقت مضى»، أو أن «الناتو لن ينقسم ولن يتعب»، أو أن الدعم الأميركي للحليفة الأوكرانية سيستمرّ «مهما تطلّب الأمر»، فيما بدا لافتاً أن التسريبات المُشار إليها، مصدرها الإدارة الديموقراطية وليس خصومها الجمهوريين. ويَنقل موقع «بوليتيكو» عن مسؤولين أميركيين، رؤيتهم لكيفية سيْر المعركة، والتي تتمحور حول أن «الدفاع الأوكراني اقترب من مرحلة حرجة جداً»؛ وقولهم إن إدارة بايدن ضغطت على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لـ«تعزيز مكاسبه على الأرض فوراً» و«شنّ هجوم مضادّ»، بالاستفادة من دفْق السلاح والمساعدات التي تنساب بحريّة وسلاسة، فيما تُظلّل مخاوف من أن يكون دعم الجيران الأوروبيين قد وصل إلى أقصى حدوده وأن يتوقّف قريباً، علماً أن روسيا لا تزال تسيطر على ما يقرب من 20% من الأراضي الأوكرانية، مع «تباطؤ الصراع وتحوّله إلى حرب استنزاف وحشية».
وإذا كان بايدن كرّر، من كييف، ما سبق أن ردّده في غير مناسبة من أن بلاده «ستقف إلى جانب أوكرانيا مهما طال الأمر»، إلّا أن «مسؤولاً كبيراً» في إدراته، قال لصحيفة «واشنطن بوست»، متوجّهاً إلى القادة الأوكرانيين: «سنستمرّ في محاولة إقناعهم بأنّنا لا نستطيع فعل أيّ شيء وكلّ شيء إلى الأبد»، لأنه «من وجهة نظر الإدارة، سيكون من الصعب الاستمرار في الحصول على نفس المستوى من الدعم الأمني والمساعدة الاقتصادية من الكونغرس ذي الغالبية الجمهورية مقارنة بالكونغرس السابق». حتى إن أحد مستشاري زيلينسكي، أعرب، لـ«بوليتيكو»، عن قلقه من أن «بعض المسؤولين في الإدارة سيكونون سعداء باستخدام الكونغرس كذريعة لوقف المساعدت العسكرية، وإجبار كييف على تقليص أهدافها العسكرية»، أو «إجبارها على إبرام اتفاق ما».
بات «النفور» الجمهوري من الدعم الأميركي لأوكرانيا أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى


وتساوقاً، بات «النفور» الجمهوري من الدعم الأميركي لأوكرانيا أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى؛ إذ استغلّ عدد من كبار القادة الجمهوريين حادثة خروج قطار كان يقلّ مواد كيميائية عن مساره في ولاية أوهايو، وتسبُّبه باندلاع حريق هائل، بداية هذا الشهر، للتصويب على استجابة إدارة بايدن لهذه الحادثة، مقارنةً بالاهتمام الذي تبديه تجاه كييف. وبدا لافتاً أيضاً، أن حاكم ولاية فلوريدا وأحد المرشّحين المحتمَلين للانتخابات الرئاسية المقبلة، الجمهوري رون ديسانتيس، علّق على الزيارة، مقلّلاً من الخطر الذي تمثّله روسيا على الولايات المتحدة و«الناتو»، معتبراً أنّه كان من الأجدى لبايدن أن يركّز على الوضع عند «حدود بلاده»، بدلاً من الوضع على الحدود في مقلب آخر من الكرة الأرضية.
على أيّ حال، دفعت خطوة بايدن بالكثير من الأسئلة إلى الواجهة، ولا سيما تلك المتعلّقة بـ«الهدف النهائي للحرب» و«سبب عدم وجود رؤية موحّدة وواضحة حول كيفية إنهائها»، وهو ما يزعج أيضاً بعض حلفاء واشنطن الأوروبيين. فعلى رغم تكرار مقولة أن الغرب بات «موحّداً أكثر من أيّ وقت مضى»، يُقابل التردّدَ لدى دول أوروبا الغربية حول تسليح أوكرانيا، «قلقٌ وجودي» لدى بعض دول أوروبا الشرقية في حال عدم كسْب كييف الحرب. وفي هذا السياق، يبيّن موقع «بوليتيكو» أن «مؤتمر ميونيخ للأمن» لم يساعد فعلياً في تخفيف مخاوف بعض هذه البلدان، «بل ساهم في تعزيزها لدى البعض منهم». ونقل عن وزير خارجية ليتوانيا، غابرييليوس لاندسبرغيس، تساؤله عن السبب الذي يمنع الغرب من الجلوس والاتفاق على هدف نهائي وموحّد للحرب، مشيراً إلى أنّهم دائماً ما يجلسون ويكرّرون التزامهم بـ«انتصار أوكرانيا»، إنّما من دون الخوض مرّة واحدة في التفاصيل، وهو «ما يقلق الشركاء في المنطقة».
وإذا كان تفسير التقاعس في تحديد أهداف نهائية والإعلان عنها بوضوح هو أن «حرب الاستنزاف» هي الاستراتيجية الوحيدة التي تنتهجها واشنطن في الوقت الحالي، فإن الوقت ربّما يصبّ في مصلحة روسيا في نهاية المطاف، بحسب مسؤولين من داخل إدارة بايدن، قالوا، لـ«بوليتيكو»، إن بوتين، الذي «لا يواجه ضغطاً يُذكر في الداخل لإنهاء الحرب»، يعتقد أنّه قادر على الصمود حتى تفكُّك «التحالف الغربي»، أو وصولاً حتى إلى انتخاب رئيس أميركي جديد عام 2024، يكون أكثر مَيْلاً إلى إنهاء الحرب، في وقت تُظهر فيه استطلاعات الرأي الجديدة تراجعاً للتأييد الشعبي لإرسال أسلحة إلى كييف. وفي أفضل تقدير للاستخبارات الأميركية، فإن الرئيس الروسي يرى أنه على رغم «النكسات التي واجهها جيشه»، لا تزال روسيا تتمتّع بميزتَين حاسمتَين: «العديد والوقت». بدورهم، يقدّر مسؤولو استخبارات أوروبيون أن بوتين واثق في قدرته على انتظار توقُّف المقاومة الغربية بشكل كامل.
بمعنى آخر، وعلى رغم الاهتمام التي حظيت به الزيارة بعد وصول قطار بايدن بسرّية تامّة إلى كييف، والتخطيط الذي سبقها واستمرّ على مدى أشهر، فضلاً عن الجهد اللوجستي والأمني الذي صُبّ لإتمامها، وما تخلّلها من مشاهد استعراضية، كتجوال بايدن وزيلينسكي في شوارع كييف وسط دويّ صافرات الإنذار بلا أيّ سبب واضح، إلّا أنها لم تخفِ صعوبة الوضع في أرض المعركة، ولا التخبّط الغربي حول إمكانية الاستمرار في تقديم الدعم. وفي انتظار أن يُحدِّد بايدن ما الذي بات يريده من هذه الحرب، وما إنْ كان الهدف منها لا يزال «إضعاف روسيا» كما أعلن، في بدايتها، وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، يخوض بوتين حربه من مبدأ أن الهزيمة تعني القضاء على روسيا «مرّة واحدة وإلى الأبد».