تنتظر الكيانَ الإسرائيلي أزمةٌ اقتصادية يَصعب تقدير حدودها النهائية من الآن. أزمةٌ إنّما هي واحدة من جملة أزمات بدأت تضغط بقوّة على تل أبيب نتيجة الانقسام الداخلي الحادّ، وسيكون من شأنها نقْل الدولة العبرية من موضع إلى آخر، قد تفقد فيه ميزتها في جذْب الأموال والاستثمارات، والتي أسهمت في إرساء رخاء اقتصادي نسبي فيها في العقدَين الأخيرَين. وتتصاعد، منذ تشكيل الائتلاف الحكومي الحالي، التحذيرات من التداعيات السيّئة للاتّفاقات التي أدّت إلى ولادته، على الاقتصاد الإسرائيلي، وعلى رأسها تلك التي أُبرمت مع القطاع «الحريدي»، ومُنح بموجبها الأخير عطاءات مالية سخيّة جدّاً، بما يشمل تمويل معاهده ومدارسه الدينية ومؤسّساته التربوية، إضافة إلى المساعدات التي يتلقّاها أعضاؤه ربطاً بعدد أفراد أُسرهم، ومِنح أخرى، مباشرة وغير مباشرة، على شاكلة إعفاءات ضريبية وسَنّ قوانين اجتماعية مكْلفة للخزينة الإسرائيلية، بما دفع الكثيرين إلى رفْع الصوت عالياً بالتنبيه إلى إمكانية إفلاس الدولة. وعلى رغم أن تلك العطاءات - التي ينطوي الحديث عنها على أيّ حال على مبالغات هي لزوم الشدّ والجذب السياسي - ستكون لها تأثيرات جسيمة بالفعل، إلّا أن هذه الأخيرة تكاد لا تقارَن بما ستخلّفه «الإصلاحات» المنويّ إدخالها على نظام الحُكم.كما بات واضحاً، تنوي حكومة نتنياهو سنّ قوانين من شأنها الانزياح بذلك النظام «الديموقراطي غير الكامل» كما يصفه الاتحاد الأوروبي، والذي يعاني أصلاً من ثقوب كثيرة، إلى ضفّة مختلفة تماماً. ضفّةٌ يمكن إجمال معالمها بالآتي: السيطرة على القضاء واستتباعه للمؤسّسة السياسية وكفّ يده عن نقْض قراراتها؛ السيطرة على البنك المركزي وضرْب استقلاليته؛ تغيير بنية الوزارات وصلاحياتها ومهامها وفقاً للمصالح الشخصية للوزراء؛ وإقرار قوانين أو إلغاء أخرى تبعاً لإرادة ورغبات الجهات والأشخاص المتسلّمين زِمام الحُكم. والخطير في الأمر، أن تلك الطموحات لم يأتِ طرْحها من بوّابة الترهيب أو رفْع السقوف لتحصيل الحدّ الأدنى منها، بل هي وُضعت على سكّة الإقرار والتنفيذ بالفعل، مُنذِرةً بانقلاب شامل على النظام الحالي، سياسياً وقضائياً واقتصادياً، من شأنه إفقاد الاقتصاد الإسرائيلي مِيزته الجاذبة للرساميل الأجنبية، ودفْع الاستثمارات المحلّية إلى الفرار إلى الخارج، وهو ما بدأ يتكشّف شيئاً فشيئاً في الأيام القليلة الماضية.
قبل أيّام، عاد مُحافظ «بنك إسرائيل المركزي»، أمير يارون، بعد أن شارك في مؤتمر لـ«صندوق النقد الدولي» في دافوس، وطلب على الفور أن يلتقي نتنياهو. في اللقاء، حذّر يارون من أن «عالَم الاقتصاد» يتابع بقلق بالغ، التطوّرات في إسرائيل، والتي يرى أنها قد تضرّ بمختلف جوانب الديموقراطية، موضحاً أن ثمّة قلقاً لدى شركات التصنيف الائتماني الدولية من آثار التشريع القضائي الجديد على الاقتصاد والاستثمارات الأجنبية، محذّراً من تَبعات تخفيض التصنيف على الدولة العبرية. على أن هذه التحذيرات لم تردع نتنياهو الذي أصرّ على ما يسمّيه «الإصلاحات في القضاء» وغيره، مقدِّماً، وشركاءه في الائتلاف، مصالحهم الخاصّة على تلك العامّة، ورابطاً النظام القضائي بمصيره السياسي والشخصي، إذ لا يريد رئيس الحكومة إسقاط التُّهم المُوجَّهة إليه فحسب، بل أيضاً البراءة التامّة واعتذار القضاء منه، وذلك عبر تحويل عملية التعيين من داخل المؤسّسة القضائية إلى خارجها، بحيث يكون القاضي مَديناً وطيّعاً له، بما يضمن له تحصين نفسه من أيّ إجراء ضدّه، وضمان ديمومته وتعزيز موقعه في الحياة السياسية.
يتوجّس الاقتصاديون من أضرار هائلة ستَلحق بالاقتصاد والمجتمع والخدمة العامّة


أمّا شركاؤه، فلكلّ منهم مصالحه الخاصة؛ إذ يتطلّع «الحريديم» إلى كفّ يد القضاء كجهة استئناف ضدّ قوانين تَصدر عن «الكنيست»، وتحديداً في ما يتعلّق بالمساواة بين الإسرائيليين، الأمر الذي من شأنه تأبيد التسويات التي تمنع عنهم التجنيد في الجيش أو أيّ أعباء ضريبية، وتمنحهم عطاءات بلا حدود ومن دون مُقابل. كذلك، يريد هؤلاء، كما المتديّنون الصهاينة، إقرار قوانين ومراسيم من شأنها تهشيم «حقوق الإنسان» المدّعاة، وتغيير طابع الدولة لتكون دولة تلمودية، وتكريس سياسة الفصل العنصري رسمياً، ومُضاعفة عمليات التنكيل بالفلسطينيين، من دون أن تكون ثمّة رقابة قضائية قادرة على نقْض تلك القوانين، حالياً أو لاحقاً. ويعني ما تَقدّم أن سلطة القضاء ستكون أداة طيّعة بيد مَن يتسلّم السلطة، وأن لا استقرار تشريعياً أو قدرة على التنبّؤ بالآتي على الصُّعد كافّة، بما يشمل حصانة رأس المال من تغييرات قد تمسّ به، علماً أن «الثقة والاستمرارية هما عماد الاستثمار في أيّ اقتصاد، وقدرته على جذْب المستثمرين». وعلى هذه الخلفية، أتت الرسائل التحذيرية من كبار رجال الأعمال والمستثمِرين وأصحاب الشركات الكبرى، ومن بينها شركات «الهايتك»، التي تُعدّ واحداً من أهمّ أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي.
وجاء في رسالة وقّعها المئات من روّاد الأعمال ومستثمِري المال، مُوجَّهة إلى نتنياهو، أن «تقويض الثقة في النظام القانوني قد يردع المستثمرين الذين قادوا صناعة التكنولوجيا في إسرائيل». وأضاف هؤلاء: «نحن روّادَ الأعمال ومؤسِّسي الشركات الناشئة في إسرائيل، المستثمرين ومديري صناديق رأس المال الاستثماري، نتوجّه إليكم بقلق في ضوء العواقب الوخيمة على الاقتصاد بشكل عام، وصناعة التكنولوجيا العالية بشكل خاص، نتيجة التحرّكات التشريعية التي تَجري هذه الأيّام في الكنيست». وتابعوا أن «الإضرار بمكانة القضاء، وكذلك الإضرار بحقوق الأقلّيات على أساس الدين أو العِرق أو الجنس أو التوجّه الجنسي، سيشكّلان تهديداً وجودياً حقيقياً لصناعة التكنولوجيا الفائقة التي بُنيت على مدى العقود الثلاثة الماضية». وزادوا: «في السنوات الأخيرة، جذبت صناعة التكنولوجيا العالية المحلّية مليارات الدولارات كلّ عام من المستثمرين الدوليين، وفيها من العوائد المالية المليارات للخزينة، لكنّ المستثمرين، وأغلبهم من أميركا، يبحثون عن الاستقرار القانوني كشرط ضروري للاستثمار نفسه، وإلّا سيكونون معنيّين بالبحث عن بُلدان أخرى، وسحْب استثماراتهم». وفي الاتّجاه نفسه، نبّه الرئيس التنفيذي لبنك «هبوعليم»، دوف كوتلر، وهو أكبر بنوك إسرائيل وأكثرها ملاءة وانتشاراً، إلى أن «العملاء يعتقدون أن إسرائيل لم تَعُد دولة آمنة بما فيه الكفاية للاستثمارات وللودائع، ويرون ضرورة تحويل أموالهم إلى الخارج، وهو اتّجاه مقلق، بدأت المصارف بتلمّسه في الأيام القليلة الماضية».
بالنتيجة، يتوجّس الاقتصاديون من أضرار هائلة ستَلحق بالاقتصاد والمجتمع والخدمة العامّة، لن تقتصر على خفْض التصنيف الائتماني، بل ستمتدّ إلى أعمق من ذلك بكثير، وهو ما يهدّد بـ«انهيار مؤسّسات الدولة، وبالتالي تقلُّص قدرة الديموقراطية الإسرائيلية على العودة لاحقاً إلى الانتعاش». وإذا كانت تلك التحذيرات جزءاً من الحملة التي تشنّها النُّخبة في إسرائيل ضدّ الائتلاف الحاكم في سياق الانقسام السياسي المحتدم، والذي بات من سِماته الرئيسة الإمعان في تشويه «الآخر»، إلّا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن التهديد قائمٌ بالفعل، وأن «سحْق القضاء يعني سحْق اقتصاد إسرائيل» وفق ما يخوّف منه الاقتصاديون، فيما الخلاف الوحيد بينهم يكاد ينحصر في ما إذا كان الانهيار عاجلاً أم آجلاً.



رجال الأعمال للسفير الأميركي: اقتصاد إسرائيل واستقرارها في خطر
التقى عدد من كبار رجال الأعمال والاقتصاديين الإسرائيليين، السفير الأميركي في تل أبيب، توم نيدس، للإعراب عن خشيتهم من تداعيات «الإصلاحات» في المنظومة القضائية، التي ينوي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفاؤه تنفيذها، محذّرين من تداعياتها السيئة على «الديموقراطية الإسرائيلية» وعلى الاقتصاد، وعلى الاستثمار الخارجي الذي بات معرّضاً للانتقال من إسرائيل إلى أسواق أكثر أمناً واستقراراً. وذكرت «القناة 12» العبرية، أن مجموعة من الاقتصاديين، أكّدوا أمام السفير الأميركي «بداية نهاية الديموقراطية الإسرائيلية»، فيما أعرب آخرون عن قلقهم من «الأضرار التي ستلحق بالتصنيف الائتماني لإسرائيل، وتقلّص الاستثمارات الأجنبية». ووفقاً للاقتصاديين، «لم يكن السفير الأميركي على اطّلاع وفهم تامٍّ للتأثيرات السلبية لخطوة نتنياهو وشركائه، وبات الآن أكثر فهماً لما يُحضّر له». مع ذلك، لم يصدر عن السفير الأميركي تعقيبات علنية، وإن كان وغيره من السفراء الغربيين، يتحدّثون في الغرف المغلقة عن «قلق خاص». بينما ذكرت صحيفة «هآرتس» نقلاً عن أحد السفراء الغربيين، أن «هنالك صعوبة في التعامل مع هذه القضية علناً​، لأنه يمكن النظر إليها على أنها تدخّل أجنبي في الشؤون الداخلية لإسرائيل». ووفقاً للسفير إياه، فإنه «من المهمّ أن نتذكّر أن هذه ليست خطوة تم اتخاذها بالفعل، أو قانون تم تمريره بالفعل، بل هي خطوة في طور التشكّل. لكن ما يمكن قوله هو أن ما يعدّ له هو تقويض للديموقراطية». وتعقيباً على «قلق الديبلوماسيين الغربيين»، قدّر مسؤول سياسي إسرائيلي في حديث للصحيفة، أنه «حتى لو ضغط المجتمع الدولي بشكل كبير ضدّ خطة نتنياهو، فسيكون الضغط بلا نتيجة أو تأثير يذكر»، بل «يمكن الافتراض أنه ستكون هناك دول تنتقد الخطوة في المستقبل القريب، لكن احتمال أن تتسبّب بعقوبات أو تحرّكات ملموسة تدفع الحكومة إلى التراجع، هو احتمال ضئيل جداً».

(الأخبار)