لا يلغي فشل الاعتداء الذي تعرّضت له منشأة أصفهان العسكرية، حقيقة أن ما جرى يشكّل حدثاً تكتيكياً نوعياً، حظي بتغطية إعلامية دولية متباينة في خلفيّاتها وأهدافها. وإذا كانت طبيعة الحدث تستوجب هذا المستوى من الاهتمام، إلّا أن ذلك ليس بسبب نتائجه المادّية التي جاءت متواضعة، وإنّما لِما يؤشّر إليه من مخاطر متفاوتة تتّصل بأكثر من ساحة محلّية وإقليمية. وانطلاقاً من الفرضية المرجَّحة بأن تكون إسرائيل هي المسؤولة عن الهجوم، فإن هذا الأخير يكون العملية الأولى في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو، التي أظهرتْ من خلاله إرادتها مواجهة التهديد الإيراني كأولوية تتقدّم على ما عداها. وبذلك، فهي تريد القول إنها قادرة على التعامل مع الساحة الفلسطينية بما لا يَحرفها عن الاهتمام بأولويات أكثر خطورة، على رغم خشية القيادة الإسرائيلية من إمكانية استثمار المقاومة في فلسطين الانشغال المُشار إليه، من أجل تصعيد الضغط الميداني في مواجهة الاحتلال، الذي سيجد نفسه، بأيّ حال من الأحوال، مضطرّاً لأن يظلّ مسقوفاً بأولوياته الإقليمية.ما يُميّز الهجوم الأخير أنه استهدف منشأة عسكرية وليست نووية، على رغم أن أصفهان نفسها تضمّ منشآت من النوع الثاني. وإذ يؤشّر ذلك إلى طبيعة الرسالة التي تريد تل أبيب إيصالها، فهو يعكس أيضاً نظرتها إلى الأبعاد المتعدّدة للتهديد الإيراني للأمن القومي الإسرائيلي، ومن بينها القدرات العسكرية التقليدية لدى إيران، والتي أضحت تهديداً ملحّاً تنبغي معالجته أيضاً، خصوصاً في ضوء ما أظهرتْه طهران من إمكانات نوعية في أكثر من محطّة وساحة. وفي السياق نفسه، يَبرز أسلوب الاستهداف بمسيّرات قصيرة المدى، ما يعني أن هذه الأخيرة انطلقت من الأراضي الإيرانية نفسها ومن على مسافة قصيرة، وأن الاعتداء أقرب إلى العمل الأمني منه إلى العمل العسكري المباشر. وإذا كانت العملية لا تحتاج إلى استخبارات نوعية كوْنها طاولت منشأة علنية معروفة في مزاياها ودورها، إلّا أنه يتطلّب قدرة تنفيذ عالية، وكفاءة في التخطيط، وهامش حركة في الداخل الإيراني، وهو ما تستطيع توفيره تنظيمات حليفة لإسرائيل ومعادية للنظام الإسلامي.
على أن من أبرز الحيثيات اللافتة التي رافقت الحادثة، هو حرْص الولايات المتحدة على أن تُخرج نفسها منها، وإلقاء مسؤوليّتها حصراً على إسرائيل. وفي هذا الإطار، اعتبر معلّق الشؤون الأمنية في صحيفة «معاريف»، طال ليف رام، أن «القيادة السياسية – الأمنية في واشنطن لم تكن لتكلّف نفسها عناء التطرّق إلى حادثة هامشية، ولكن فعلت ذلك فقط كي تنأى بنفسها عن المسؤولية عنها»، عادّاً الموقف الأميركي «بمثابة إلحاق ضرر بمصالح إسرائيلية، وإقحام للإصبع الأميركية في العين الإسرائيلية»، فيما اعتبر رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، اللواء تامير هايمن، أن التبرّؤ الأميركي من العملية يضرّ بمساعي تعزيز قوّة الردع إزاء إيران. مع ذلك، ينبغي القول إن التنسيق المستمرّ والعميق بين الطرفَين ينفي احتمال وجود هذا المستوى من التباين، بل الأرجح أن ثمّة قدْراً من التناغم (الذي لا يتعارض مع وجود مساحة من اختلاف التقديرات)، ستحرص الولايات المتحدة على مُواراته، حتى تَظهر بمظهر المصمّم على إنجاح المفاوضات النووية. ومن بين المؤشّرات التي ينبغي عدم القفز عنها في السياق المتقدّم، أن مهاجمة المنشأة الإيرانية أتت بعد أيام قليلة من زيارة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، وليام بيرنز، إلى إسرائيل.
اعتداء أصفهان هو بديل تكتيكي من خيارات عملياتية عسكرية


ومن بين ما يُعزِّز تقدير التكامل بين الطرفَين أيضاً، أن استهداف منشأة أصفهان تَرافق مع مساعٍ أميركية متجدّدة لاستئناف المفاوضات النووية، من خلال الوسيط القطري، وهو ما يتطلّب اقترانه بأدوات ضغط تُظهر للطرف الإيراني أن الخيارات البديلة غير معدومة بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، على أن تلعب الأخيرة هي دور العصا، في تبادل أدوار كثيراً ما يَحضر لدى الجهات الإسرائيلية المختصّة. أمّا بخصوص فرضية أن يكون الإسرائيلي ساعياً إلى عرقلة تلك المساعي، فهي مستبَعدة كونها تتعارض مع مستوى التنسيق بين الجانبَين، فضلاً عن أن فُرص التوصّل إلى اتفاق، متضائلة أصلاً، خصوصاً في هذه المرحلة على الأقلّ، وبالتالي ليس ثمّة دافع جدّي لدى إسرائيل للإقدام على خطوات صِدامية مع إدارة جو بايدن. صحيح أن خلافاً يمكن أن ينشب بين واشنطن وتل أبيب، لكنه مشروط بوجود مخاوف جدّية من التدحرج نحو مواجهة واسعة تؤدّي إلى تورّط الولايات المتحدة، وهو ما لا ينطبق على الحادث الأخير الذي يبدو أقرب إلى لعِب على حافة الهاوية.
ويأتي الاعتداء على منشأة أصفهان في الوقت الذي استنفدت فيه إسرائيل الكثير من الخيارات في مواجهة إيران، وفشِل رهانها على تقويض نظام الجمهورية الإسلامية من الداخل وإضعافه، وأيضاً بعدما وجدت نفسها إزاء سيناريوات ينطوي كلّ منها على مخاطر جدّية، مع تموضُع إيران، عملياً، كدولة حافة نووية، وهو ما أقرّ به التقدير الاستراتيجي لـ«معهد أبحاث الأمن القومي» عن العام 2023. وعليه، فإن العملية تُعدّ محاولة لإيجاد بديل من الخيارات الأخرى، أو من التسليم بالمسار التصاعدي لإيران نووياً وعسكرياً. وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة «معاريف» أن «الموقف الذي سُمع أخيراً من الهيئات المختلفة في المؤسّسة الأمنية والعسكرية، هو أن الفترة القريبة هي وقت مناسب لزيادة الضغط العسكري على الإيرانيين». وأضافت الصحيفة أن «الأميركيين أيضاً يُظهرون مؤشّرات أكثر عدوانية في ظلّ تداعيات التعاون بين إيران وروسيا...»، مع التذكير هنا بأن المنشأة المستهدفة عسكرية وليست نووية، وهو ما رأى فيه البعض رسالة على اتّصال بالتعاون الروسي - الإيراني.
في الخلاصة، اعتداء أصفهان هو بديل تكتيكي من خيارات عملياتية عسكرية مباشرة أكثر جدوى، لكنها أكثر خطورة، نجحت إيران في إرساء ردع استراتيجي إزاءها، وهو ما يوفّر لها مظلّة حماية استطاعت حتى الآن تمكينها من مواصلة تقدّمها النووي والعسكري. لكن التحدي الذي لا تزال تُواجهه الأجهزة الإيرانية المختصّة، يتمثّل في توسيع دائرة تلك الحصانة لتشمل المستويات التكتيكية، بالعناوين كافة. وإذا كان ما جرى أقرب إلى الرسالة منه إلى الهجوم القادر على الإضرار بشكل جدّي وفعلي، فهو يبقى رسالة خطيرة في أبعادها السياسية والأمنية والنفسية، سيكون على طهران أن تُحسن التعامل معها.