الحسكة | حرصت الأحزاب الكردية السورية، في فترة ما قبل الحرب، على تلافي استخدام مصطلح "روج أفا" أو "كردستان سوريا"، في مختلف خطاباتها السياسية آنذاك، مع تأكيد اعتبار نفسها جزءاً من الحركة السياسية الوطنية، وحصْر أهدافها في تأمين حقوق الكرد الثقافية، وهو ما اعتُبر بمثابة انتفاء لوجود قضية كردية، ينادي أصحابها بتأسيس "كردستان سوريا"، كما هي الحال في العراق وإيران وتركيا. وكانت الحركة السياسية الكردية المنقسمة على بعضها إلى عدد كبير من الأحزاب، المصطفّة في تيارَين أساسيَين هما "التحالف الديموقراطي الكردي" و"الجبهة الديموقراطية الكردية"، تمارس نشاطها سرّاً، قبل أن تتحوّل إلى العلن منذ عام 2000. كما أنها لم تكن على قطيعة مع الحكومة السورية، التي حرصت في كثير من الأحيان على حضور احتفالات الكرد بأعياد النوروز، وتأمين الحماية اللازمة لهذه الاحتفالات. لكن هذا التناغم الظاهري لم يحفر على ما يبدو في العمق - وفق ما أظهرته أزمات العقد المنصرم -، على رغم محاولة شخصيات كردية بارزة، في مقدمها رئيس أقدم الأحزاب الكردية، عبد الحميد حاج درويش، الذي وصل إلى عضوية مجلس الشعب عام 1990، خلْق مساحات عمل مشتركة مع دمشق، لم تُبقِ القوّة الكردية الرئيسة المسيطرة على المشهد راهناً، أيّاً منها، بفعل "سياساتها الخاطئة والبعيدة عن الواقع والتي لا تنسجم مع تطلّعات الشعب الكردي"، كما وصفها حاج درويش نفسه عام 2018.مع بدء الحرب في سوريا، توزّع الأكراد على تيّارَين سياسيَين: الأول هو "المجلس الوطني الكردي" الذي انضمّ إلى "المجلس الوطني السوري" المعارض، ولاحقاً إلى "الائتلاف السوري" المعارض؛ والثاني "حزب الاتحاد الديموقراطي" الكردي، الذي قرّر تشكيل قوات عسكرية، وإعلان "إدارة ذاتية" مؤقّتة لإدارة مناطق الشمال السوري، ضمن ما سُمّي حينها "التيار الثالث"، أي غير المصطفّ لا مع الحكومة ولا مع المعارضة. ومع تطوّر الأحداث، اتّجه "المجلس الكردي" نحو تعميق تحالفاته مع المعارضة الخارجية، فيما سعى "الاتحاد - PYD" إلى التفرّد بشؤون الكرد في الداخل، محاوِلاً في الوقت نفسه الانفتاح على المعارضة الداخلية الممثَّلة في "هيئة التنسيق الوطنية" المعارضة، ومتحالِفاً مع "تيار قمح" بزعامة المعارض هيثم مناع، من دون أن يتجاوز هذا التحالف حدود المظاهر، ما عجّل في انفراط عقده بعد أشهر قليلة من إعلانه. وعلى رغم إعلان "الإدارة الذاتية المؤقّتة"، المشكَّلة من الـ"PYD"، عام 2013، أن "الإدارة المؤقّتة لا تهدّد وحدة سوريا، ولا أمن دول الجوار، وأُسِّست بهدف تخفيف الأعباء عن كاهل الشعب، والاعتماد على الذات إلى حين انتهاء الأزمة التي تمرّ بها البلاد"، إلّا أنها سرعان ما شعرت باشتداد عودها، وتخلّت عن كلمة "مؤقّتة"، وأنشأت تحالفاً عسكرياً باسم "قوات سوريا الديموقراطية"، وسياسياً باسم "مجلس سوريا الديموقراطية"، وذلك في العامَين 2014 و2015، إثر دخول الأميركيين كحليف لها، بقوات عسكرية إلى مناطق سيطرتها.
اندفع الأكراد بأحلامهم بعيداً، وأعلنوا تشكيل "فيدرالية شمال وشرق سوريا" عام 2016


هكذا، اندفع الأكراد بأحلامهم بعيداً، وأعلنوا تشكيل "فيدرالية شمال وشرق سوريا" عام 2016، ما دفع "رئيس مجلس سوريا الديموقراطية" حينها، هيثم المناع، إلى الاستقالة من منصبه اعتراضاً على ذلك الإعلان، الذي صدرت أيضاً بيانات حكومية ومعارضة رافضة له، وعادّةٌ إيّاه توجّهاً انفصالياً. وبناءً عليه، اضطرّ "الاتحاد" إلى مراجعة خطوته، قبل أن يعلن، بالاستناد إلى نصيحة أميركية، التراجع عن "الفيدرالية"، وتشكيل "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا"، في أيلول 2018، بوصْفها نموذجاً للحلّ السياسي في سوريا. ومع أن "PYD" تخلّى عن مصطلح الفيدرالية في تسمياته الرسمية، إلّا أنه واصل ممارسة نشاطه كمتحكّم بمنطقة مستقلة سياسياً عن جغرافية البلاد، من خلال استحداث ممثّليات لها في عدد من البلدان الأوروبية، وتنظيم لقاءات مع وفود غربية، بعيداً عن أيّ تنسيق مع الحكومة المركزية.
حافظ القادة الأكراد على خطابهم السياسي المتحفّظ، وتنسيقهم الأمني والعسكري غير المعلَن مع دمشق، طيلة السنوات الأربع الأولى من الحرب. لكن إعلان الولايات المتحدة دخولها الأراضي السورية لمحاربة "داعش"، وتحديداً إبّان معركة كوباني عام 2014، مثّل نقطة البداية لاستدارة الـ"PYD" عن دمشق، وشروعها في بناء سياساتها وفق مصالح الأميركيين، واعتماداً على وجودهم كحليف عسكري لها. إلا أنّ هذا التحالف سرعان ما حرّض تركيا أيضاً على الدخول البري إلى سوريا، واحتلال مناطق جرابلس وأعزاز والباب، لقطع الطريق على ربط مناطق الحسكة وعين العرب وعفرين، والتي أُعلنت فيها "إدارات ذاتية" حينها. وفي أعقاب ذلك، تعاظم التهديد التركي للوجود الكردي، والذي تُرجم لاحقاً بعمليات عسكرية أخرجت الأكراد من عفرين ورأس العين وتل أبيض، وقطعت أوصال "الذاتية" جغرافياً.