لندن | في خطوة تاريخية أثارت عواصف من الجدل، أصبح المستشار الألماني أولاف شولتز، أوّل زعيم غربي كبير يزور الصين منذ أكثر من عامَين، ويلتقي زعيمها المتوَّج شي جين بينغ، مصطحباً معه وفداً ثقيلاً من قادة الشركات الألمانية الكبرى. وعلى الرغم من الصراخ الهستيري ضدّ بكين من قِبل شركاء شولتز في الائتلاف الحاكم في ألمانيا، وامتعاض واشنطن وبروكسل، إلّا أن استراتيجية تثبيت علاقات برلين مع القطب الآسيوي الصاعد، باتت بمثابة ضرورة لاقتصادها الذي يعيش واحدة من أسوأ مراحله، بعد أن اختار ساسة البلاد الانخراط في الحملة الأميركية ضدّ روسيا، والتخلّي عن موارد الطاقة الرخيصة الآتية من الأخيرة
فاجأ المستشار الألماني أولاف شولتز، أنصاره قبل خصومه، بتصميمه على إبقاء حبل الودّ (الاقتصادي) ممدوداً مع بكين، وذلك على رغم المحاذير العديدة الداخلية - المتمثّلة في موقف شركائه في الائتلاف الحاكم -، والإقليمية - على مستوى الاتحاد الأوروبي -، وتلك المرتبطة بالولايات المتحدة التي تمارس تأثيراً غير هيّن على الشأن الألماني منذ الحرب العالمية الثانية. شولتز، وقبل سفره (الجمعة) إلى بكين للقاء الزعيم الصيني شي جين بينغ، كان مرّر، الشهر الماضي، اتّفاقاً تستحوذ بموجبه شركة الشحن الصينية «كوسكو» على حوالي 25% من محطّة الحاويات في ميناء هامبورغ، وهو ما عارضتْه ستّ وزارات في حكومته. وكتبت سوزان باومان، وهي موظّفة بارزة في وزارة الخارجية، رسالة غاضبة إلى رئيس موظّفي شولتز، فولفغانغ شميدت، قالت فيها إن الصفقة «تزيد بشكل غير متناسب من نفوذ الصين الاستراتيجي على البنية التحتية للنقل الألماني والأوروبي، وتُكرّس اعتماد ألمانيا على الصين»، لكنّ المستشار أصرّ على تصديق مجلس الوزراء الألماني على الاتفاق، وإنْ قَبل بتخفيض الحصّة الصينية من 35%، كانت مقترَحة في البداية.
كان من شأن فشل الاتفاق مع «كوسكو» أن يلقي بظلال ثقيلة على زيارة شولتز، ويبعث إلى بكين برسالة غير مطمْئنة حول نوايا برلين تجاه العلاقات الثنائية. لكن بدا جليّاً أن المستشار الألماني قد «شرب حليب السِّباع»، وحصل على ما يكفي من دعم أساطين الصناعة الألمانية للمُضيّ قُدُماً في حماية العلاقات الاقتصادية القويّة بين البلدَين. ومَثّل تمرير ذلك الاتفاق - على محدودية قيمته - رسالة صريحة إلى كلّ الأطراف المعنيّة بأن كتلة صلبة في قلْب النُّخبة الألمانية، تريد حماية ما بنتْه حكومات أنجيلا ميركل، المستشارة السابقة، من علاقات انخراط إيجابي مع الصين خلال الستّة عشر عاماً الماضية، وتعتزم أن تربأ بتلك العلاقات عن التحوّل إلى أضحية جديدة على مذبح السياسات الأميركية، بعد مصادر الطاقة الروسية.
شولتز، الذي كان خدَم وزيراً للمالية في حكومة ميركل، انتُخب العام الماضي مستشاراً جديداً عن «الحزب الديموقراطي الاجتماعي» - يسار الوسط -، لكنه اضطرّ لعدم حصوله على عدد كافٍ من الأصوات، للدخول في تحالف مع «الخضر» و«الليبراليين الديموقراطيين الأحرار»، وهي أحزاب ذات أجندات اقتصادية وسياسية منحازة بشدّة إلى المواقف الأميركية، ومُعادية لروسيا والصين. وقد تسبّب ضعف شولتز هذا، بخضوعه للضغوط الأميركية بشأن العلاقات مع روسيا، والاصطفاف خلْف نظام كييف اليميني، من طريق إبطال الترخيص الممنوح لخطّ نقل الغاز «نورد ستريم 2»، والمشاركة في فرْض سلاسل متلاحقة من العقوبات ضدّ روسيا، وإرسال دعم مادّي وعسكري للحكومة الأوكرانية. لكنّ الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الألماني نتيجة هذه السياسات، جاءت فادحة، وهي تُهدّد الآن بدخول البلاد في خضمّ مرحلة قاسية من الركود الاقتصادي والمصاعب الاجتماعية، ناهيك عن نقص غير مسبوق في إمدادات الطاقة. وظلّ هذا الاقتصاد مزدهراً طوال العقدَين الأخيرَين بفضْل إمدادات الطاقة الرخيصة التي كانت تأتي من جهة موسكو، والتي مكّنت الصناعات الألمانية من بناء قدرة تنافسية عالية، وتعظيم الصادرات نحو أسواق ضخمة مِن مِثل الصين.
كانت ألمانيا في عهد ميركل واحداً من المستفيدين الرئيسيين من انفتاح الصين على العالم


وكان شركاء شولتز في الائتلاف، ولا سيّما وزيرة خارجيته أنالينا بيربوك (زعيمة حزب الخضر و«صقر واشنطن» داخل الحكومة)، استخدموا، في خضمّ عملية تشكيل التحالف الثُّلاثي، لهجة ناقدة تجاه بكين ولا سيّما بشأن حقوق الإنسان - الملعب التقليدي للاستعلاء الأخلاقي الغربي على دول الجنوب -، وفرضوا صياغة استراتيجية مستقبلية بشأن العلاقات مع الصين تتناغم والتوجّه الأميركي لاعتبار الأخيرة العدو المركزي للغرب. لكنّ مؤتمر «الحزب الشيوعي الصيني» الشهر الماضي، والذي عزّز فيه شي قبضته على اللجنة الدائمة للمكتب السياسي ليصبح أقوى زعيم صيني منذ الراحل ماو تسي تونغ، وقَبْله ميلان بكين - الهادئ والصامت - إلى مساندة موسكو في حربها على أوكرانيا، وتصعيد الأولى في ملفّ تايوان، كلّ ذلك أصابهم بالصدمة، إلى درجة أن مدير المخابرات الداخلية الألمانية، توماس هالدنوانغ، قال أمام البوندستاغ (البرلمان) قبل أسابيع قليلة، إن الصين تمثّل تهديداً أكبر بكثير للأمن الألماني على المدى الطويل من روسيا، «فإذا كانت روسيا هي العاصفة، فإن الصين هي التّغير المناخي». وفي ظلّ هشاشة الائتلاف الحاكم، كان متوقّعاً أن يستمرّ شولتز في استرضاء حلفائه الداخليين (والخارجيين)، وينحو في اتّجاه التشدّد مع الصين، على رغم موقفه المُعارض لِما تَقدّم. لكنّ أساطين الصناعة الألمانية، الذين دفعوا - ولا يزالون - فاتورة باهظة من جرّاء فقدانهم مصادر الطاقة الروسية والسوق الروسية معاً، ليسوا مطلقاً في وارد السماح بخسارة الصين - أكبر أسواق الآلات والمواد الكيميائية والسيّارات الألمانية - مهما كانت المبرّرات، وهُم أبلغوا شولتز بموقفهم هذا على الأرجح، وعبّروا عن استعدادهم لدعمه في مواجهة الراقصين على الأنغام الأميركية، أو ترْكه لمواجهة الكارثة المحتّمة وحده.
معالم التحالف الجديد ظهرت ابتداءً في خطابٍ لشولتز ألقاه الشهر الماضي أمام مؤتمر لرجال الأعمال، قال فيه «إن فكّ الارتباط بالصين هو الإجابة الخاطئة»، محذراً من العواقب السلبية لركوب موجة قطْع العلاقات مع بكين. وجاء تمرير اتفاق ميناء الحاويات، لاحقاً، بمثابة ترجمة لذلك الموقف، وبداية لتوجّه براغماتي لحماية العلاقات الاستراتيجية مع الصين من تقلّبات السياسات. وإذ ستحاول بعض وزارات الحكومة الجديدة تعطيل هذا التوجّه عبر الحدّ من دعمها لتوسّع الشركات الألمانية في الأسواق الناشئة عندما يتعلّق الأمر بالاستثمار في الصين، إلّا أن مراقبين يرون أن الشركات الكبرى لا تجد مكاناً آخر لتذهب إليه، وأنها ستفعل ما تريد بضمانات من الحكومة أو من دونها. وفي الحقيقة، فإن الصناعة الألمانية تدرك أكثر من غيرها خطورة العبث بالعلاقات مع بكين؛ إذ إن عملاق الكيمياويات الألماني «باسف»، مثلاً، يخطّط لتقليص وجوده في أوروبا بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة، وهو أعلن في تموز الماضي الشروع في بناء مصنع جديد ضخم في مدينة تشانجيانغ (جنوب الصين) سيكلّف 10 مليارات يورو. ومن جهتها، تنفّذ شركة متاجر التجزئة «ألدي» برنامجاً لفتح آلاف المتاجر الجديدة عبر البرّ الصيني، في حين تخطّط «سيمنز» لتوسّع كبير في مجال «الصناعات الرقمية» المزدهر في الصين، وهي تُصرّف حالياً 15% من إنتاجها العالمي لشركات صينية. وتبيع شركة «فولكسفاغن» للسيارات، بدورها، أكثر من 40% من إنتاجها للسوق هناك، كما حصصاً معتبَرة من إنتاج «مرسيدس» و«بي إم في».
ولسنوات، كانت ألمانيا في عهد ميركل واحداً من المستفيدين الرئيسيين من انفتاح الصين على العالم، فيما غذّى مزيج من الطاقة الروسية الرخيصة والصادرات الألمانية الكثيفة إلى السوق الصينية طفرة اقتصادية استمرّت لما يقارب العقدَين، ووضعت ألمانيا في موقع الصدارة أوروبياً، في وقت كانت فيه اقتصادات بقيّة القارّة تميل إلى الانكماش. وفي عام 2021، عندما تركت ميركل السلطة، كانت الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا لعام سادس على التوالي، حيث شكّلت 9.5% من مجمل تجارتها التصديرية. ومع أن المستشارة السابقة انتقدت الصين علناً في مسائل حقوق الإنسان، إلّا أنها أبْقت العلاقات الاقتصادية محيّدة دائماً عن بازار التصريحات السياسية، وزارت بكين بمعدّل مرّة واحدة سنوياً مصحوبة بوفود تجارية ضخمة. واليوم، يحذو شولتز حذْو سلفه ميركل؛ إذ اصطحب معه في زيارته الأولى مديري معظم الشركات الألمانية الكبرى، وأكد عزمه إدامة التعاون الاقتصادي مع الصين، ولم يَفُته إعلان إجراء نقاشات «صريحة» مع شي بشأن مجموعة واسعة من القضايا، بما فيها الحرب الأوكرانية، وحقوق الإنسان، واستخدام الأسلحة النووية. وفي المقابل، وافقت بكين على تصريح مشترك يندّد بالتهديد باستخدام الأسلحة النووية - من دون أن يَذكر روسيا بالاسم -، فيما دعا شي إلى تكثيف التعاون بين البلدَين وسط «أوقات التغيير والاضطرابات هذه».
ويقدّر مراقبون أن تجاوُب شولتز مع الصناعيين الألمان وسيْره على نهج ميركل بشأن العلاقة مع الصين، قد يعني نهاية قريبة للائتلاف الحاكم. واشتكى سياسيون في حزب «الخضر» من أن المستشار يبدو بصدد الذهاب وحده نحو علاقة دافئة ببكين، من دون أن يعبأ بالحكومة الائتلافية أو بالشركاء الأوروبيين أو حتى بالتزامات ألمانيا الأطلسية. لكنّ الجميع يعلمون أن شولتز قد ينتهي رابحاً من جولة انتخابات جديدة، ويعود أقوى ممّا مضى بدعم النُّخبة البرجوازية والعمّال الألمان، وهي الجهات الأكثر تضرّراً من سياسات الائتلاف الحالي المُحابية لواشنطن على حساب المصالح الألمانية. أوروبياً، قد تسبّب تَوجّهات شولتز مصاعب له داخل بروكسل، ولا سيّما من دول أوروبا الشرقية وبحر البلطيق التي تقف على يمين واشنطن ذاتها في ما يتعلّق بروسيا والصين، لكنّ الدول المؤثرة مِن مِثل فرنسا وإيطاليا قد تجد أنها تحتاج بدورها إلى رؤية الأمور من منظار مختلف عن المنظار الأميركي، وبناء سياسة متوازنة مع الصين بعد خسارتها روسيا. أميركياً، يرى خبراء أن واشنطن قد تتفهّم دوافع شولتز الداخلية، خصوصاً أنها معنيّة أيضاً بإبقاء نافذة لمحاولة إبعاد الصين عن الارتباط المعمّق بموسكو، فيما قد يكون من شأن الشراكات مع الأوروبيين أن تخدم كذلك في الحدّ من الرغبة الصينية في استعادة تايوان بالقوّة، وهي معركة لا ترغب الولايات المتحدة في فتحها، أقلّه في ظلّ المواجهة الحالية مع روسيا. في المقابل، وعلى الجهة الأخرى من العالم، اعتبرت الصين زيارة شولتز تطوّراً مرحَّباً به، حيث تتطلّع قيادة البلاد إلى توطيد علاقاتها مع العالم الخارجي بعد سنوات من العزلة السياسية التي تحاول واشنطن جاهدة فرضها عليها. ويقدّر الصينيون تاريخاً من التعاون البنّاء بين البلدَين خلال حُكم ميركل، وهم مستعدّون لبذل الجهد لمساعدة شولتز على إبقاء هذا الجسر نحو قلب أوروبا مفتوحاً، ولا سيّما لناحية سعة الصدر تجاه التصريحات المخصَّصة للتسويق الإعلامي.
هي إذاً زيارة ثمينة في قيمتها الرمزيّة والعملية للجانبَين، ومكسب لـ«العقلاء» على حساب الصخب الإيديولوجي، وبوّابة أمل بتحوّلات إيجابية لاحقة، سواء على صعيد العلاقات الأوروبية مع الصين، أو لناحية تخفيض مستوى التوتّر العالمي جرّاء المواجهة في أوكرانيا. لكن أسعد الجميع بما جرى، لا شكّ هم الصناعيون الألمان، «أبطال اللحظة».