يعود رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، إلى السلطة في تل أبيب، على رأس ائتلاف يميني وديني متطرّف، بعد فوز حاسم في انتخابات جاءت استثنائية في دلالاتها، ليس لناحية غلبة أقصى اليمين فيها فقط، بل أيضاً لتسجيلها هزيمة كبيرة للمعسكر المضادّ، وسقوط الحزب اليساري الوحيد المتبقّي في إسرائيل إثْر فشله في تجاوز العتبة الانتخابية. وحتى ساعة متأخّرة من مساء الأربعاء، لم تكن عمليات عدّ الأصوات قد انتهت، إلّا أن النتيجة باتت شبه مؤكّدة، ومن المستبعد أن يؤثّر أيّ متغيّر فيها، وهي فوز كتلة نتنياهو بنصف عدد المقاعد زائداً أربعة، ما يعني أن تكليفه تشكيل الحكومة بات محتوماً، وأرجحية نجاحه في تأليفها عالية جدّاً.على أن انتصار معسكر نتنياهو ليس المعطى البارز الوحيد في نتيجة الانتخابات الإسرائيلية، بل إلى جانبه أيضاً نجاح حزبَي التطرّف والعنصرية الرئيسَين، «الصهيونية الدينية» برئاسة بتسلئيل سموتريش و«عوتسماه يهوديت» برئاسة إيتمار بن غفير، وهما خليفتا مؤسِّس حركة «كاخ»، المتطرّف مائير كاهانا، الذي تميّز بعدائه وعنصريّته ضدّ «الأغيار»، ودعوته إلى تهجيرهم كي تبْقى إسرائيل دولة يسكنها اليهود فقط. وبن غفير، الذي كافح في الانتخابات السابقة كي يتجاوز العتبة الانتخابية، حقّق في هذه الانتخابات إنجازاً يُعدّ مقدّمة لمكاسب لاحقة، يرى عدد من المحلّلين الإسرائيليين أنها لن تكون بعيدة من خلافة نتنياهو نفسه على رأس «الليكود»، وخصوصاً أن إيتمار بات هو الرجل المناسب الذي يتساوق مع تطلّعات الجمهور الإسرائيلي وانزياحه نحو اليمينية والتطرّف، وفق ما أظهرته اتّجاهات التصويت في صناديق الاقتراع. واللافت أن حزبَي «الصهيونية الدينية» أضافا إلى مقاعدهما السابقة، عشرة مقاعد جديدة، من دون أن يُحدث ذلك نقصاً في عدد مقاعد الأحزاب اليمينية الأخرى، الأمر الذي يعني أن القاعدة الناخبة للعنصرية المباشرة والواضحة، لا تفتأ تتّسع.
في المقابل، سُجّل سقوط حزب «ميرتس» اليساري، ليخلو «الكنيست» من أيّ تمثيل لليسار، وإنْ بعدد محدود كما كانت عليه الحال في الندوات البرلمانية في السنوات الأخيرة. وهي نتيجة كانت مُقدَّرة سابقاً، بعدما تحوّلت اليسارية إلى وصمة عار، في ما أدّى عملياً إلى تهشيم هذا التوجّه بالكامل. كذلك، مُني معسكر رئيس الحكومة الحالي، يائير لابيد، بهزيمة قاسية، تَعدّدت التفسيرات التي سيقت لها، لكن أبرزها، والذي تتعذّر المجادلة فيه، هو ما ورد على لسان قادة المعسكر اليميني، من أن الأغلبية اليهودية لا تتسامح مع حكومة تعتمد على العرب، في إشارة إلى ضمّ لابيد في ائتلافه، «القائمة العربية الموحدة» برئاسة منصور عباس. على المقلب الفلسطيني، ثبت فشل استراتيجية عباس في الاندماج في الحياة السياسية في إسرائيل عبر الائتلاف مع الأحزاب الصهيونية، لتحقيق «ما أمكن» من حقوق فلسطينيّي الداخل، بحسب ما يدافع به. وإذ كان يأمل بأن تدفع خُطاه بقيّة الأحزاب العربية إلى الحذو حذوها، فهي تسبّبت عملياً بانشقاقات إضافية في اللوائح الفلسطينية التي تشرذمت إلى ثلاث، وصولاً إلى سقوط حزب «التجمع» وخروجه من «الكنيست»، نتيجة فشله في تجاوز العتبة الانتخابية، بعدما رفض مجاراة الأسرلة. أيضاً، أثبتت نتيجة الانتخابات واتّجاهات التصويت اليهودي فيها، أن مسألة اندماج فلسطينيّي الداخل ليست قراراً يتّخذه هؤلاء بأنفسهم، بل إن الطرف الآخر، اليهودي، لا يريد ولا يسعى إلى اندماج كهذا، وهو وإنْ تبنّى «المواطَنة»، فإنّما يريدها من الدرجة الثانية أو الثالثة، بحيث تجعل أصحابها بعيدين عن المساواة الحقيقية.
ستكون إسرائيل أمام استحقاق التكليف بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات رسمياً خلال أيام


في النتائج، ستكون إسرائيل أمام استحقاق التكليف بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات رسمياً خلال أيام، فيما من المرجّح أن يجري تكليف نتنياهو تشكيل الحكومة. وإذ يُتوقّع أن يخوض الأخير مساراً صعباً من المفاوضات مع الشركاء اليمينيين والمتديّنين واليمينيين المتطرّفين، فإن هذا المسار لن يخلو من مفاجآت ونكوص عن الوعود و«خيانة» للشركاء، وخصوصاً أنه بالنسبة إلى زعيم «الليكود»، كلّ شيء مباح لتحصيل السلطة والحفاظ على ديمومتها أطول فترة ممكنة. ومن المنتظَر أن يواجه نتنياهو مطالب كبيرة من الأحزاب الدينية، التي وعدها قبل الانتخابات بالحصول على معونات مالية ضخمة وبلا شروط، لمصلحة معاهدها الدينية ومؤسّساتها التربوية، فيما هي ستسعى إلى كسْب المزيد، كونها استحصلت على عدد مقاعد كبير نسبياً، مقارنةً بالانتخابات السابقة، فضلاً عن وضعها المزري اقتصادياً، بعد قطْع المعونة عنها من قِبل الحكومة السابقة ووزير ماليّتها، أفيغدور ليبرمان، عدوّ «الحريديم» الأول. أمّا حزبا «الصهيونية الدينية»، فهما يريدان وزارتَي الأمن والأمن الداخلي، ومؤسّسات الاستيطان وما يرتبط بها، إضافة إلى حقائب العدل والمواصلات والتربية والشتات، وكلّ ما يمكّنهما ممّا يسمّيانه فرْض «الطابع اليهودي» على الدولة ومؤسّساتها، وهي التسمية غير المباشرة للعنصرية والتطرّف ضدّ كلّ مَن هو وما هو غير يهودي. وفي إزاء ذلك، سيكون نتنياهو معنيّاً بالعمل على تليين المطالب، مع إدراكه تقلُّص هامش المناورة لديه في مواجهة «الصهيونية الدينية»، الأمر الذي سيدفعه من جديد إلى طرْق أبواب بني غانتس والتفاوض معه، كي يضغط على بن غفير من خلاله، ما يثير علامة استفهام كبيرة حول ما إنْ كان غانتس هذه المرة سيجاريه، بعدما لُدغ من جحره مرّتَين في السابق.
في المحصّلة، يعود نتنياهو إلى سدّة الحُكم زعيماً لمعسكر يميني متطرّف، فرضتْه صناديق الاقتراع كانعكاس لتوجّهات معظم الجمهور اليهودي، الذي بات يَعدّ التطرّف والعنصرية مفخرة، والاعتدال (وإنْ نسبياً) شتيمة وعاراً. والراجح أن مهمّة نتنياهو في تشكيل الحكومة لن تكون سهلة، وإن كان المتوقّع أن يستطيع في نهاية المطاف تأليفها، لكنها ستكون عُرضة للابتزاز والمزايدات بشكل متواصل، وخاصة في ما يتعلّق بالقرارات الصعبة التي أُطلقت وعود بشأنها للجمهور الإسرائيلي من قِبل المتطرّفين. أمّا في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، وما يسمّى بـ«العملية السياسية»، فستبقى مجمَّدة بلا حراك، كما هي الآن، لكن مع تشدّد أكبر في عمليات التجميد، هذا إن لم يُقدِم الائتلاف العتيد على تجاوُز خطوط حمرٍ وضعتْها إسرائيل لنفسها في وجه السلطة الفلسطينية، ليتسبّب والحال هذه بإضعافها أكثر. وبخصوص القضايا الأمنية والتهديدات والتحدّيات على اختلافها، ستكون مهمّة المؤسسة الأمنية مزدوجة: العمل وفقاً للقدرة والظرف والتداعيات وإمكان تحمّل الكلفة؛ في موازاة «تعليم» الوافدين الجدد حدود القوة واستخدامها، مع لجم تطلّعاتهم ومنعهم من المزايدات الكلامية والعملية التي تضرّ بمصالح إسرائيل الأمنية.



الانقسام باقٍ... والأصوات الضائعة بمئات الآلاف
لا يعني الانتصار المدوّي الذي حقّقه معسكر بنيامين نتنياهو، وكذلك الانكسار المدوّي الذي مُني به المعسكر المقابل، أن الانقسام الحادّ في إسرائيل، بات من الماضي. إذ تشير نتائج صناديق الاقتراع، مع فرز أكثر 87% من الأصوات، إلى وجود فارق بسيط جداً بين المعسكرَين، وهو 0.01% فقط، ما يعني تعادلاً في الأصوات، مع فوز كبير لنتنياهو. وبحسب الأرقام، فقد صوّت 2.066.061 لمصلحة كتلة لابيد وللأحزاب العربية في الداخل، مقابل 2.069.961 لمصلحة الكتلة المنافِسة. والظاهر أن هذه الفروق تعود إلى سوء إدارة المعركة الانتخابية، و«اللاتجانس» في ما بين أعضاء معسكر لابيد، مقابل الإتقان والحنكة في إدارة المعركة الانتخابية لدى اليمين والأحزاب الدينية. وقد أدّى هذا الإخفاق في الحالة الأولى إلى فشل عدد من أحزاب معسكر الائتلاف الحكومي في تجاوز العتبة الانتخابية، كما هي حال حزبَي «ميرتس» و«التجمع»، اللذين كانا قريبَين نسبياً من العتبة، ما أدّى إلى خسارة 8 مقاعد، ذهبت بمجملها إلى معسكر نتنياهو. وكان أخفق «ميرتس» في الاتحاد مع «العمل» في لائحة واحدة، الأمر الذي كان يعني نجاحهما في تحصيل 7 مقاعد في حدّ أدنى. والأمر نفسه ينسحب على لائحة «بلد» لحزب «التجمع»، الذي فشل أو أُفشل في الانضمام إلى «القائمة المشتركة» برئاسة أيمن عودة. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن الخلافات بين اللوائح المؤيدة للابيد، منعت عنها الاتفاق على تبادل الأصوات الفائضة، وهي كسور المقاعد، ما أفقد المعسكر عدداً من النواب. وفي المحصّلة، ضاع في الانتخابات الحالية ما يقرب من ثلاثمئة ألف صوت، بينما كسبت كتلة نتنياهو 10 مقاعد إضافية عن استحقاقها الفعلي.