قد لا يكون «التجمع الوطني الديموقراطي» هو الخاسر الأكبر بين القوائم العربية الثلاث، على الرغم من أنه وجد نفسه، لأوّل مرّة منذ التسعينيات، خارج «الكنيست». على الأقلّ، لم يحصل «التجمع» على دعم مادّي خارجي من اللوبيات الصهيو ــ أميركية الهادفة من وراء ذلك إلى الحفاظ على كذبة «إسرائيل اليهودية الديموقراطية»، وعلى «ائتلاف التغيير» بقيادة رئيس الوزراء، يائير لابيد، الذي ستلتصق باسمه بدءاً من الساعات القريبة كلمة «رئيس الوزراء السابق»، حين يعود بنيامين نتنياهو ليتربّع على عرش السلطة بسيْف «الصهيونية الدينية». أثبت «التجمع»، من خلال خريطة توزّع المقترعين، أنه كان بمقدوره، لو حصّل بضعة آلاف إضافية من الأصوات، سحْب البساط من تحت قدمَي الحكومة اليمينية الصهيونية، ما كان سيقود الكيان إلى انتخابات سادسة. إلّا أن هذا اللاعب، الذي أظهرت العيّنات الأوّلية أنه لا يزال «رقماً صعباً»، لم يكن لديه بالفعل شيء ليقدّمه بمقاعده الأربعة المأمولة لفلسطينيّي الـ48، سوى تمثيل الصوت الوطني الرافض للاندماج في المنظومة الصهيونية، فيما هو، للمفارقة، يتطلّع إلى مواجهة هذه المنظومة من قَلْبها. تجهّز «التجمع» للخسارة مسبقاً، إذ تَوقّع قصوره عن عبور عتبة الحسم، ولكن السؤال المهمّ الآن هو ما إنْ كان جاهزاً للانتقال إلى مكان آخر، في الشارع وبين الناس، حيث مكانه الحقيقي والطبيعي. هناك، سيكون مضطرّاً للتفكير في آلية للعمل والنضال من خارج البرلمان، بعدما ساهم هو نفسه، وخصومه السياسيون من الأحزاب العربية في القائمة «المشتركة» سابقاً، في حصْر النضال الفلسطيني داخل هذه الهيئة. ومن هنا، يبدو «التجمع»، الذي حصل على 130 ألف صوت لم تخوّله دخول «الكنيست»، أمام مهمّة صعبة و«سيزيفية»، وتحدٍّ غير مسبوق بالنسبة إلى حزب سياسي في أراضي عام الـ48، خصوصاً أنه وصّف نفسه حاملاً للمشروع الوطني، وناطقاً بصوته، ولاقى تأييداً لافتاً بين الفلسطينيين، حتى بين أولئك المقاطعين الجذريين للانتخابات.
بقي أن يُدرك الفلسطينيون أن الاجتماع حول الخيار المقاوم بكلّ اتّجاهاته وأشكاله هو ضرورة ملحّة


خلال السنوات السابقة، لمس الفلسطينيون حجم اتّساع الهوّة بينهم وبين «نُخبتهم»، فيما عبّرت هَبّة أيار من العام الماضي عن ذلك بوضوح، حين قادت الأطر واللجان الشبابية والشعبية الشارع، متسلّمةً زمام المبادرة، ومتولّيةً الدفاع عن «الغيتوهات» الفلسطينية القائمة في صُلب «المدن المختلطة» بوجه المستوطنين. ومن هنا، يأمل فلسطينيون كثر في أن يبادر «التجمع»، مع بقيّة الحركات الجذرية مِن مِثل «أبناء البلد» و«كفاح» وأطر شبابية وشعبية أخرى، إلى خلْق حالة سياسية نضالية في الميدان، تبْقى المصاعب الماثلة أمامها كثيرة، خصوصاً أن التيّار الصهيوني الديني قد استقرّ في مكانة مرموقة بين «أعمدة الهيكل». أمّا خصما «التجمع» وشريكاه بالأمس، المتمثّلان في «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» بقيادة أيمن عودة، و«الحركة العربية للتغيير» بقيادة أحمد الطيبي، فتنتظرهما، بمقاعدهما العشرة، مهمّة ميسّرة في «الكنيست»، ستقتصر على التراشق الكلامي، والصراخ والزعيق، وتمزيق مبادرات القوانين، وتأدية الآذان في الهيئة العامة، وربّما الاشتباك بالأيدي... ليس لأنهم متقاعسون، بل لأن الحكومة العتيدة ستعبّر عن التوجّه الصهيوني الحقيقي بلا مواربة أو خجل، وستمارس فاشيّتها استناداً إلى شعورها بـ«الحق» في قتل العرب دفاعاً عن الوجود الصهيوني اليهودي ومكانته. وفي المقابل، يفضّل الليبراليون الإسرائيليون ممارسة القتل اعتماداً على نظريات عسكرية مستمَدّة من الفلسفة ما بعد الحداثية، لتكون جرائمهم متناسبةً ومقاييس الغرب الأبيض ومعاييره، كما في تطبيقهم «عقيدة الضاحية» في لبنان، و«المترو» في غزة أو «كاسر الأمواج» في الضفة.
وعلى رغم أن نتائج الانتخابات ستكون لها تداعيات على الفلسطينيين عموماً وفلسطينيّي الـ48 خصوصاً، لا سيما إذا ما عُيّن زعماء «الصهيونية الدينية» في الوزارات الأكثر حساسية مِن مِثل الأمن والأمن الداخلي، إلّا أن انعكاساتها على يسار إسرائيل وليبراليّيها ربّما تكون أقسى وأوضح، لارتباطها بالصراع القائم حول هوية الكيان ومكانة «التوراة» فيه، والذي يبدو أنه يُحسم لصالح «إسرائيل الصهيونية الدينية»، في مقابل سقوط كذبة «إسرائيل اليهودية الديموقراطية». وهكذا، يَظهر الفلسطينيون على عتبة مرحلة سيكون فعل القتل فيها منطلِقاً أوّلاً من كوْنهم «أغياراً» مرفوضين ومنبوذين، فيما ستنتهي أيضاً خرافة «بيضة القبّان» التي صدّقها منصور عباس حتى آخر نَفَس، مُظهراً كعادته مهانةً لا قعر لها، بتأسّفه عقب صدور النتائج لأن «نتنياهو لن يكون بحاجة إليّ».
في المحصّلة، تبدو مرحلة «الصهيونية الدينية» نتيجة طبيعية للتغيّرات الحاصلة في المجتمع الإسرائيلي وتبدّلاته، فيما بقي أن يُدرك الفلسطينيون أن الاجتماع حول الخيار المقاوم بكلّ اتّجاهاته وأشكاله هو ضرورة ملحّة لمواجهة بُنية إسرائيل وطبيعتها الكولونيالية الإقصائية، والتي ثبت أنها لا تتغيّر بتغيُّر الحكومات، سواءً كانت يساراً أو يميناً أو وسطاً.