لعلّ واحدة من أهمّ نتائج الانتخابات الإسرائيلية، هي فوز لائحة «الصهيونية الدينية» برئاسة بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير، بعدد كبير نسبياً من مقاعد «الكنيست»، قد تصل في نهاية فرز صناديق الاقتراع إلى 15 مقعداً، الأمر الذي من شأنه أن يرفع هذه اللائحة إلى المرتبة الثالثة بعد حزب «الليكود» وحزب «يش عتيد»، لتسبق بذلك أيضاً حزب «معسكر الدولة» برئاسة وزير الأمن بني غانتس، الذي استقطب إلى صفوفه عدداً من القادة السابقين في المؤسّستَين العسكرية والأمنية. المفارقة أن زعيمَي «الصهيونية الدينية» قاتلا في الانتخابات السابقة كي يجتازا العتبة الانتخابية، فيما هما الآن صاحبا الكلمة الفصل في أيّ ائتلاف يشكّله رئيس «الليكود»، بنيامين نتنياهو، مع اشتراطات ومطالب لا تُحصر من قِبَلهما، إنْ جرى تكليفه تشكيل الحكومة المقبلة. فما هي المتغيّرات التي أسهمت في هذا التحوّل؟ وكيف يمكن تفسير سقوط حزب «البيت اليهودي»، برئاسة الوزيرة في الائتلاف الحالي أيلت شاكيد، والذي يعبّر بدوره عن قطاع «الصهيونية الدينية»؟ وماذا عن تداعيات فوز بن غفير وسموتريش على اليمين بقيادة نتنياهو؟ وهل ستكون لائحتهما معنيّة أو قادرة على تنفيذ وعودها الانتخابية المتطرّفة؟ إزاء تلك التساؤلات المتزاحمة، يمكن تسجيل الآتي:أوّلاً: تتكوّن اللائحة من حزبَين صهيونيَين دينيَين، «الصهيونية الدينية» برئاسة سموتريش و«عوتسماه يهوديت» برئاسة بن غفير، وهما حزبان يعتنقان الأيديولوجيا ذاتها، ويتعارضان فيما بينهما في كيفية ترجمتها، ما يدفع إلى تباينات ومزايدات وخلافات شخصية، عنوانها التسابق في إظهار التطرّف ضدّ الفلسطينيين، من أجل كسْب الأفضلية لدى الشارع الصهيوني الديني. أمّا سبب اتّحاد الحزبَين فهو الخشية من إمكانية تسرُّب أصوات من بيئتهما، من دون أن ينفي ذلك احتمال افتراقهما في المستقبل، وهو السيناريو المرجّح.
ثانياً: يمثّل الحزبان أيديولوجيا «الصهيونية الدينية» التي يمكن تعريفها بأنها الاتجاه الذي انفصل عن اليهود المتديّنين الأرثوذكس (الحريديم) الذين رفضوا الحركة الصهيونية وإقامة دولة يهودية في فلسطين، وعمِل على جسْر الهوة بين الدين والصهيونية. اقتصر جلّ نشاط هذا الاتجاه سابقاً على تعزيز الاستيطان في أراضي عام 1967، وهو لا يزال كذلك، مع تمدّد حضوره في أوساط يهود أراضي عام 1948. وتختلف هذه الفئة المتديّنة، عن «الحريديم»، في أنها تنظر إلى إسرائيل باعتبارها لا تخالف الشريعة، ولا تغتصب «حق المسيح» في إقامة الدولة. ولذا فهي اكتسبت اسمها من كون أتباعها متديّنين وفقاً للشريعة اليهودية، وفي الوقت نفسه يؤمنون بالفكر الصهيوني، وضرورة تأسيس دولة من دون انتظار ظهور المسيح. ودائماً ما كانت «الصهيونية الدينية» ظهيراً للعلمانيين، ومصدراً لشرعية مفقودة بالنسبة إليهم لدى «الحرديم»، وهي ترى في نفسها «أمّ الصبي» في عملية تأسيس الدولة وبقائها، وتطالب بضرورة إبقاء كلّ أرض يصل إليها اليهود تحت احتلالهم، بما يشمل بطبيعة الحال أراضي الضفة وقطاع غزة، وترفض بالمطلق أيّ تنازلات للفلسطينيين. كما لا تتردّد في الإقدام على أيّ أفعال «غير سويّة»، حتى ضدّ اليهود المعارضين لها والذين تَصِفهم بـ«الخونة» و«كارهي ذواتهم»، لأنها في الأصل تَنظر إلى ذاتها نظرة القيمومة على الدولة، وأنها أعلى من القوانين الإسرائيلية، وبإمكانها تجاوزها لمصلحة الصهيونية والاستيطان.
لا ترتبط «الصهيونية الدينية» في ما بينها برابط تنظيمي خاص أو مرجعية دينية أو علمانية


ثالثاً: يمثّل حزبا بن غفير وسموتريش، أحدث نسخة وصلت إليها الصهيونية الدينية، وفيها من التشدّد القديم الكثير، ومن الجديد ما لا يُحصر: المطالبة بترحيل الفلسطينيّين من الأراضي المحتلّة؛ الدعوة إلى منْع لمّ شمل العائلات الفلسطينية وإنْ حازت على الجنسية الإسرائيلية؛ رفْض «حلّ الدولتين» وأيّ تنازل عن أيّ شبر محتلّ؛ الحضّ على فرْط عقْد السلطة الفلسطينية وإنهاء وجودها؛ رفْض التعامل مع حاملي الجنسية الإسرائيلية من فلسطينيّي عام 48 كمواطنين؛ الحثّ على إبعاد مَن يُشكّ في أمرهم أمنياً من الفلسطينيين وعائلاتهم إلى قطاع غزة؛ الاعتقاد بأهمية الحدّ من المعونات الاقتصادية لفلسطينيّي الداخل والاستيلاء الكامل على الحرم القدسي وجواره وإباحة ساحاته لليهود للتعبّد والصلاة والزيارة؛ الدعوة إلى تشديد الحصار على غزة وتفضيل الحلول العسكرية؛ الإيمان بضرورة العودة إلى سياسات القتل والتهجير والاغتيالات وتوسيع الاستيطان في الضفة والقدس؛ المطالبة بمنع إجازات البناء وتصاريح التوظيف والعمل للفلسطينيين؛ وإلغاء «اتفاقيات أوسلو» وما تبعها بالمطلق واعتماد حُكم ذاتي غير موحّد في الضفة الغربية للأماكن المدينية الفلسطينية؛ الحضّ على الامتناع عن الاستماع إلى مطالب الأميركيين والخارج في ما يتعلّق بالاستيطان و«استرداد الأرض»، وكذلك البحث عن قضايا أو إيجادها لتكون موضوعاً للمزايدة في التطرّف.
رابعاً: لا ترتبط «الصهيونية الدينية» في ما بينها برابط تنظيمي خاص أو مرجعية دينية أو علمانية تقود وتقرّر وتطلب من مُريديها التنفيذ، وهو ما يجعلها أقرب إلى فكرة منها إلى كيان سياسي أو ديني. وعلى مدى السنوات الماضية، كانت هذه الفكرة تتعزّز وتحظى بمزيد من «المعتنقين» وتُرسي قواعد للتنافس عنوانها: كلّما كنتَ متطرّفاً وعنصرياً وكارهاً ضدّ الفلسطينيين، كلّما كنتَ صهيونياً دينياً بامتياز. على أن التطرّف لم يقتصر على الفلسطينيين فحسب، بل انسحب كذلك على كلّ مَن يرفض العنصرية والكراهية مِن بين اليهود أنفسهم، إلى الحدّ الذي باتت معه سِمة اليسارية تُعادل الخيانة العظمى. ومن بين التحوّلات التي تُسجَّل أيضاً في العقد الأخير، هو انفكاك الصلة القيادية بين الأعلى والأدنى في معسكر «الصهيونية الدينية»، بفارق كبير نسبياً عن غيرها من الكيانات السياسية والأيديولوجيات في إسرائيل، وهو ما جعل موالاة هذا القائد أو ذاك، مرهونةً بمدى تطرّفه وعنصريّته. وعلى هذه الخلفيّة، يضحي مفهوماً سعي القيادات الصهيونية الدينية إلى تظهير أعلى مستوى من التطرّف بهدف كسْب تأييد جمهورها، فيما تهمّشت العناوين الأخرى التي تميّز الجماعة مِن مِثل الامتثال للأحكام الدينية والتعاليم اليهودية وغيرها، وهو ما يفسّر وجود عدد كبير من غير المتديّنين، أو من المتديّنين التقليديين، في أوساطها.
خامساً: نشطت قيادتا الحزبَين الفائزَين، في العامَين الماضيَين، على أكثر من صعيد واتجاه، لتظهير تطرّفها، وتخوين الطبقة الحاكمة التي كانت قد انتقلت من اليمين برئاسة نتنياهو، إلى خلطة اتّجاهات يمينية ووسطية ويسارية وأيضاً فلسطينية، برئاسة صهيوني ديني، هو رئيس حزب «البيت اليهودي»، نفتالي بينت. ونُظر إلى تعاون بينت مع أطراف تلك الخلطة لتشكيل حكومة، وإنْ برئاسته، بوصفه شذوذاً عن أعراف العنصرية وقواعدها، فكان الرفض له ولحكومته ولكلّ يهودي يشارك فيها ويدعمها. ومن هنا، يُفهَم سقوط شاكيد، التي خلَفت بينت في رئاسة الحزب، في صناديق الاقتراع، وعجزها عن تجاوز نسبة الحسم (العتبة الانتخابية)، لكونها ارتضت الجلوس في ائتلاف واحد إلى جانب منصور عباس.
في ما يرتبط بالمرحلة المقبلة، يُتوقّع أن تكون مرحلة مساومات وابتزاز ومطالب تعجيزية توضَع على طاولة التفاوض على الحكومة الآتية برئاسة نتنياهو، في حال جرى تكليف الأخير تأليفها. إذ إن حزبَي بن غفير وسموتريش سيكونان معنيَّين باستغلال موقعهما ومكانتهما في «الكنيست» لتحصيل ما أمكنهما من مواقع وزارية، وقرارات تعزّز من صورتهما لدى جمهورهما، وهو ما يصعّب المهمّة أمام نتنياهو - خصوصاً أن وزن «الصهيونية الدينية» سيكون حاسماً في أيّ ائتلاف يريد تشكيله -، ويجعل استقرار حكومته العتيدة على حدّ السيف، مع بروز احتمال انفراط عقْدها مستقبلاً، كما باتت العادة متّبعةً في إسرائيل. في المقابل، إن تولّى الحزبان وزارات وازنة ذات تأثير في القضايا المتعلّقة بالفلسطينيين، سواءً في الضفة أو القدس أو الداخل، فسيعملان على تغيير الأنظمة بما يتوافق مع نظرتها المتطرّفة وعنصريّتهما، الأمر الذي يعني فترة قد تطول أو تَقصر، من المضايقات القانونية والعملية والمؤسّساتية ضدّ الفلسطينيين في كلّ ساحاتهم.