تعيش هايتي، الدولة الصغيرة المطلّة على البحر الكاريبي، منذ العام الماضي، حالة فوضى شاملة، أشعلها اغتيال الرئيس السابق، جوفينيل مويس، والذي ازدادت على إثره أعمال العنف والقتل والخطف باطّراد، وصولاً إلى مستويات غير مسبوقة في الأشهر الأخيرة، حيث سَجّل مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ما بين كانون الثاني وحزيران، 934 جريمة قتل و680 حالة اختطاف في العاصمة «بورت أو برنس» فقط. ورافقت ذلك سيطرةُ تحالف من العصابات على إمدادات الوقود، قبل أن يأتي انتشار وباء «الكوليرا» مجدّداً، وما نتج منه من أزمة إنسانية في البلد الذي يبلغ عدد سكّانه 11 مليون نسمة، ليُكمل مشهد المأساة. مأساةٌ لم تَجد حكومة هنري إزاءها إلّا اللجوء إلى «الحلّ الأسهل»، والمتمثّل في طلب دعم عسكري دولي لاحتواء الأزمة التي فشلت الشرطة المحلّية في محاصرتها، وهو ما قوبل باحتجاجات شعبية واسعة، بالنظر إلى التاريخ الأسود لهذه التدخّلات، وما خلّفته من تداعيات جسيمة على البلاد، بدءاً من غزو مشاة البحرية الأميركية «المارينز» لهايتي عام 1915، وليس انتهاءً ببعثة تحقيق الاستقرار التابعة للأمم المتحدة «مينوستاه» ( 2004 ـــ 2017)، والتي تسبّبت بإزكاء الصراعات، وصاحَب وجودَها تفشّي «الكوليرا» الذي أودى بحياة حوالى عشرة آلاف شخص، واتُّهم بعض مسؤوليها باغتصاب الأطفال وفضائح أخرى. ومن هنا، يرى مركز «ريسبونسيبل ستيتكرافت» الأميركي (responsible statecraft) أن «التاريخ الطويل من التدخّل الخارجي الفاشل والمدمّر في الشؤون الهايتية، يُظهر أن لا الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة لديها الحلّ لمشكلات هايتي السياسية». وفي مقال تحت عنوان: «آخر شيء تحتاجه هايتي هو تدخّل عسكري أجنبي» نُشر الشهر الماضي، يشدّد الكاتب دانيال لاريسون على أن الوقت قد حان لـ«تخلّي الحكومات الهايتية عن عادتها في طلب التدخّل الشرير، وترْك الهايتيين ليرسموا مسارهم الخاص». والجدير ذكره، هنا، أن هذا «التدخّل الشرير» غالباً ما شكّلت الولايات المتحدة قائده الرئيس؛ إذ سبق لها أن دعمت مويس على رغم تورّطه في تمكين العصابات التي تَجري محاربتها اليوم، فيما تلعب الآن دوراً فعّالاً في إبقاء هنري في السلطة، على الرغم من افتقاره إلى الشرعية. ومع ذلك، يعتقد لاريسون أن الأوان لم يَفُت بعد لـ«تغيير إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، مسارها الحالي تجاه هايتي».
لا الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة لديها الحلّ لمشكلات هايتي السياسية


على أن إدارة بايدن لا تُظهر أيّ إشارة في هذا الاتّجاه، وهو ما بدا واضحاً خلال جلسة مجلس الأمن التي عُقدت الأسبوع الماضي، حيث صوّتت الولايات المتحدة وحلفاؤها على دعم القرار القاضي بإرسال قوّات أجنبية إلى هايتي، فيما حذّرت روسيا والصين من الإقدام على هكذا خطوة. كذلك، وافق مجلس الأمن الدولي، بالإجماع، على تجميد أصول زعيم تحالف العصابات الأبرز، المعروف باسم «G9»، جيمي شيريزير، بعدما حاصر التحالف الذي يقوده، في أيلول الماضي، محطّة الوقود الاستراتيجية «فارو»، متسبّباً بإغلاق المستشفيات، وتوقّف معظم وسائل النقل، فضلاً عن شحّ السلع الأساسية، بما فيها المياه النظيفة. ويجري الحديث عن احتواء هايتي ما لا يقلّ عن 200 عصابة، معظمها تنشط في العاصمة «بورت أو برنس»، حيث أقامت معاقلها تاريخياً في الأحياء الفقيرة المكتظّة هناك، لِما تتمتّع به هذه الأخيرة من قيمة سياسية بسبب عدد سكّانها الكبير، من جهة، ولسهولة الإفلات من أيدي قوات الأمن فيها، من جهة أخرى. وعلى مدى الـ25 سنة الماضية، لم تستطع الشرطة الهايتية فعل شيء حيال تلك الظاهرة، لأسباب عدّة من بينها ضعف جهوزيتها، وعزوف السكّان عن الانخراط فيها لرواتبها المنخفضة، فضلاً عن وجود نسبة لا بأس بها من الضبّاط المرتبطين بشكل مباشر أو غير مباشر بالمجرمين.
وعلى رغم فداحة ما تقوم به، «ييدو أنه لا يمكن كبح نموّ العصابات حالياً، وذلك بسبب فشل السياسيين في تشكيل حكومة شرعية منذ اغتيال مويس»، وفق ما يقدّر تقرير لـ«مجموعة الأزمات الدولية» صدر في شهر تموز الماضي. وبحسب التقرير، فإن السياسيين ونُخبة رجال الأعمال في هايتي «اعتمدوا تاريخياً على العصابات للوصول إلى السلطة، لكن المجرمين أصبحوا أكثر استقلالية في السنوات الأخيرة»، فضلاً عن أن «هذه الصلات لم تَعُد مبنيّة على الاعتبارات السياسية فقط بل تجاوزت ذلك إلى علاقات منافعية»، وهو ما يتجلّى بوضوح من خلال استخدام النُخب عنف العصابات لقمع المعارضة السياسية وتأمين الاحتكارات الاقتصادية، في مقابل استخدام الأخيرة علاقاتها مع الأولى لتأمين التمويل والأسلحة والذخيرة، والإفلات من العقاب. أمّا بالنسبة إلى رئيس الوزراء بالوكالة، الذي ازدهر في عهده عمل العصابات على نحو غير مسبوق، فيَلفت التقرير إلى أنه على الرغم من الدعم الدولي له، إلّا أن «الكثير من الهايتيين يرون فيه استمراراً لنظام راسخ من الفساد السياسي»، فيما يصفه بعض المراقبين اللاتينيين بأنه «خادم موثوق للمصالح الإمبريالية في هايتي»، خصوصاً بالنظر إلى خدمته كرئيس في ما يسمّى «مجلس الحكماء»، وهو هيئة شكّلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لإضفاء الشرعية على الانقلاب الذي أطاح الرئيس جان برتران أريستيد عام 2004.