شغل خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ، الافتتاحي، الممتدّ على ساعتَين، خلال المؤتمر العشرين لـ«الحزب الشيوعي الصيني» الأسبوع الماضي، الإعلام الصيني والغربي على حدّ سواء. وما بين تأكيد بعض الخطوط العريضة التي اتّبعتها بكين سابقاً، والتنبيه إلى «عواصف» قادمة يجب التحضّر لها، بدا خطاب شي الأكثر صرامة ووضوحاً منذ تولّيه الرئاسة عام 2012، إذ قطع من خلاله الشكّ باليقين لدى «أعداء الصين» في الداخل والخارج، مبلوراً نهج «الصين المختلِفة» لحقبة كاملة قادمة.
لا عودة إلى الوراء
بعد سنوات من مراكمة الخبرات حول سياسة «دولة واحدة ونظامان»، والتي نجحت في احتواء «الممارسات الانفصالية والمُعادية للصين، الهادفة إلى زعزعة الاستقرار في هونغ كونغ وماكاو»، وجّه شي، في خطابه، رسالة حازمة إلى بعض الأطراف التي لا تزال تأمل، ولو خفيةً، إنهاء هذه السياسة في أيّ وقت قريب، من خلال تشديده على ضرورة التمسّك بها على المدى الطويل وتحسينها، باعتبارها «إنجازاً عظيماً للاشتراكية ذات الخصائص الصينية». وفي هذا الإطار، رأى الخبير في شؤون هونغ كونغ وماكاو وتايوان في «جامعة نانكاي»، لي شياوبيغ، في حديث إلى صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية المملوكة من الدولة، أن «تأكيد شي أن الالتزام بهذه السياسة سيكون طويل الأمد، أدّى إلى تبديد الشكوك في بعض قطاعات مجتمع هونغ كونغ، بما في ذلك لدى بعض القوى السياسية ذات الدوافع الخفيّة، التي غالباً ما تروّج لوجود موعد نهائي لهذه السياسة». كما أكد شي أن بكين ستضْمن أن تمارس الحكومة المركزية الولاية القضائية الشاملة على المنطقتَين، وأن يدير «الوطنيّون» وحدهم هونغ كونغ وماكاو.
أمّا في ما يتعلّق بتايوان، فلم يكن من المستغرب أن تُركّز وسائل الإعلام على موقف الرئيس الصيني من الجزيرة بهذا الشكل الكبير، مع وصول التوتّرات بين بكين وتايبيه إلى أعلى مستوياتها تاريخياً. إلّا أنه باستثناء احتلال المسألة موقعاً متقدّماً في الخطاب هذه المرّة، ونيْلها الحصّة الكبرى من التصفيق في «قاعة الشعب»، لم يزِد حديث شي عن الجزيرة الكثير إلى موقف الصين المتمثّل في التشديد على إعادة توحيد تايوان بالطُّرق السلمية مع البرّ الرئيسي، من دون استبعاد فرضيّة اللجوء إلى القوة و«جميع الوسائل الضرورية» لتحقيق هذا الهدف. وبالرغم من ذلك، فقد رأى مراقبون أن لهجة شي كانت «أكثر حدّية»، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، ولا سيما لجهة الموقف من التدخّل الخارجي؛ إذ هدّد بأنه سيتمّ تطبيق فرضية اللجوء إلى القوّة، فقط في حال تدخُّل القوى الخارجية أو الأقلّية من الانفصاليين، مجدّداً التأكيد أن مسألة تايوان هي «شأن داخلي صيني محض، وحلّها سيكون على يد الصين وحدها»، في تهديدٍ مبطن للولايات المتّحدة والسلطات التايوانية. وعلى ما يبدو، استشعرت واشنطن خطورة لهجة شي فوراً، إذ سرعان ما أعلن المتحدّث باسم خارجيتها، أنتوني بلينكن، عقب الخطاب، أن الصين «غيّرت مقاربتها لمسألة تايوان»، وأنها لم تَعُد تَقبل بالوضع الراهن حول الجزيرة، مشيراً كذلك إلى أنها «وضعت جدولاً زمنياً أسرع بكثير للاستيلاء عليها بالقوة».
تعي الصين، جيّداً، أنه ما عاد بالإمكان «تأجيل» المواجهة مع الغرب


العاصفة الغربية
التشديد على خطورة تدخُّل القوى الخارجية في شؤون الصين، لم يقتصر على مسألة تايوان فقط، إذ ظَهر، من خلال خطاب شي، أن الحصّة الكبرى من تركيز بكين ستكون منصبّة، في الفترة القادمة، على حفظ الأمن القومي ومواجهة ما وصَفه الرئيس الصيني بأعمال «التسلّل والتخريب والأنشطة الانفصالية التي تشنّها القوى المعادية». وفي حديث إلى صحيفة «نيويورك تايمز»، لفت مسؤول السياسة التقنية في مجموعة «Trivium China» البحثية إلى أن «شي لم يضع مسار التقدّم الصيني في إطار المنافسة مع الغرب، بل صوّره على أنه عاصفة من الضغوط الخارجية التي يجب تجاوزها»، فيما اعتبرت صحيفة «بوليتيكو» الأميركية أن خطاب الرئيس الصيني يشكّل مدخلاً إلى وُجهة نظره «القاتمة» بشكل متزايد حول مستقبل العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة، حيث يَعتبر أن واشنطن ستمضي قُدُماً في سياساتها وشراكاتها لمواجهة نفوذ بكين المتعاظم في المحيطَين الهندي والهادئ وخارجهما. وفي السياق نفسه أيضاً، قال مدير الدولة السابق للصين في مكتب وزير الدفاع، بوني لين، للصحيفة: «ما يثير الدهشة فعلاً، هو أن العديد من الإجراءات التي تَعتبر بكين أنها بحاجة إلى اتّخاذها، تهدف إلى تجهيز سكّان جمهورية الصين الشعبية لأزمات محلّية أو خارجية معيّنة قادمة». وهذا التوجّه ليس بمستغرَب، ولا سيما أن المؤتمر يأتي بعد أقلّ من أسبوع على كشْف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، عن استراتيجيتها للأمن القومي، والتي ركّزت على الصين باعتبارها «المنافس الوحيد الذي لديه نيّة إعادة تشكيل النظام العالمي، ويتمتّع على نحو متزايد بالقوّة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية للقيام بذلك».
أمّا لفهْم سبب تركيز شي، بشكل خاص أيضاً، على قطاع التكنولوجيا ودعم الابتكارات المحلّية، فيكفي الاطّلاع على تصريحات بلينكن في «جامعة ستانفورد»، في السابع عشر من الشهر الجاري، والتي أعلن فيها انتهاء العالم القديم، أي عالم ما بعد الحرب الباردة، معتبراً أن المنافسة المحتدمة حالياً ستحدّد شكل العالم القادم، لافتاً إلى أن «التكنولوجيا في صُلب هذه المنافسة». كما يكفي، في هذا السياق أيضاً، الاستناد إلى الإجراء الذي اتّخذته واشنطن أوائل الشهر الجاري، والمتمثّل في فرْض قيود جديدة على بيع وتصدير تكنولوجيا أشباه الموصلات إلى الصين، في خطوة تهدف إلى شلّ قدرة الأخيرة على الوصول إلى التقنيات الحيوية الضرورية لتصنيع كلّ شيء، من الحوسبة الفائقة إلى صناعة الأسلحة والصواريخ. وإثر ذلك، نبّه شي إلى أهميّة الابتكار التكنولوجي، معلِناً أن الدولة، لا القطاع الخاص، هي مَن سيقود المبادرات في المجال المذكور مستقبلاً.

خاتمة
تعي الصين جيّداً، أنه ما عاد بالإمكان «تأجيل» المواجهة مع الغرب، وتحديداً مع الولايات المتحدة، في حال أرادت حماية صعودها ومركزها على الساحة العالمية. وعلى رغم «العواصف والعقبات» التي سيكون على الجمهورية الشعبية التحضّر لها مستقبلاً، على حدّ تعبير شي، فقد أكّد هذا الأخير، في المقابل، أن «عجلات التاريخ تسير نحو إعادة توحيد الصين ونهضة الأمّة الصينية»، وحدّد موعداً أبكر لتحقيق الهدف الثاني لمئويّتها بشكل مبدئي، والمتمثّل في بناء الصين كـ«دولة اشتراكية حديثة عظيمة» على جميع الأصعدة، وسط سعْي واشنطن إلى إيجاد حلّ لـ«الصين التي باتت مختلفة جدّاً، أخيراً، تحت قيادة شي، والتي تشكّل خطراً على المصالح الأميركية في العالم».