وقف الرئيس الكولومبي، غوستافو بترو، أمام قادة الدول المجتمعين تحت سقف الأمم المتحدة في الدورة الأخيرة للجمعية العامة، حيث ألقى خطاباً خارجاً عن المألوف، وصف فيه الحرب الأميركية على المخدّرات بـ«الفاشلة». وبصيغة تميّزت بـ«التخلّي» عن الدبلوماسية، قارن بترو بين مخاطر إدمان المخدّرات، وما وصفه بـ«الإدمان الأكثر ضرراً للبشرية على السلطة والربح والمال»، متسائلاً ما هو الأكثر ضرراً: «الكوكايين أم النفط؟»، ليطالب باسم دول «أميركا اللاتينية الجريحة»، بإنهاء الحرب «غير العقلانية» على المخدّرات، لأن «الحدّ من استهلاك المخدّرات لا يحتاج إلى حروب، بل يحتاج إلى بناء مجتمع أفضل». وفيما سارع أنصار بترو إلى الإشادة بموقفه هذا، وبانتقاده لنهج الولايات المتحدة في التعامل مع «المخدّرات»، انتقده خصومه بسبب مساواته بين الكوكايين ومصادر الطاقة. على أن الطرفين أقرّا بأن «الحرب على المخدّرات» التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، في سبعينيّات القرن الماضي، لم تؤتِ أُكُلها، على رغم إنفاق الولايات المتحدة عشرات مليارات الدولارات مذّاك لمكافحة «الإدمان».على مدى العقود الماضية، ركنت الحكومات الكولومبية المتعاقبة، بالتعاون مع نظيراتها الأميركية، إلى الجيش لاحتواء مشاكل الريف، إن كان لمحاربة زراعة نبتة «الكوكا» التي منها يُصنع الكوكايين، أو لمكافحة الجماعات المسلّحة المرتبطة بالإتجار بالمخدّرات. وعلى هذا النحو، مضت حكومة الرئيس السابق إيفان دوكي، في انتهاج السياسة إيّاها، فجعلت، في المرحلة الأولى، من تكثيف العمليات للقبض على قادة الجماعات المسلّحة وقتلهم، هدفاً لها، يوازيه هدف «القضاء على نبتة الكوكا»، على رغم علمها أن من شأن هذه الإجراءات أن تؤدّي إلى دورات عنف جديدة، نتج منها بالفعل تقويض ثقة أهالي الريف بالجيش، وتالياً الدولة، ولا سيما أنه كان «يُنظر إلى الفلّاحين بصفتهم طرفاً فاعلاً في الصراع، وليس قوة لها شرعية لحماية مصالحها»، وفق ما جاء في تقرير صادر عن «مجموعة الأزمات الدولية»، لفت معدّوه إلى أن ما تقدَّم أدّى إلى «ولادة جوّ مشحون في هذه المناطق، وإلى تقويض السلامة العامة، التي تُرجمت من خلال الاشتباكات الدائمة بين الجيش والفلّاحين». كذلك، أظهرت الأرقام الصادرة عن «مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها» (CDC)، أن حكومة دوكي فشلت أيضاً في السيطرة على معدّل الوفيات؛ إذ إن «أزمة الجرعات الزائدة تسبّبت في مقتل أكثر من 107 آلاف شخص في العام الماضي وحده، في الولايات المتحدة»، فيما خلّفت هذه الحرب، منذ إطلاقها، أكثر من تسعة ملايين ضحية، غالبيتهم العظمى من المدنيين، وفق المركز. وكان لافتاً خلال تصفية القادة ومهرّبي المخدرات، أنه في كلّ مرة يُقتل فيها شخص بارز، يحلّ محلّه آخر، ما يعني حلقة مفرغة من القتل.
القضاء على مهرّبي المخدّرات الكبار، مِن مِثل بابلو إسكوبار، أو محاربة «الكارتلات» الشهيرة على غرار Norte del Valle، «لم يؤثّرا حتى في عملية تسويق الكوكايين، بل على العكس، نمت هذه السوق، وتضخّمت أعداد العصابات»، وفق ما تورد ديانا لوبيز زوليتا، في صحيفة «إلبايس» الإسبانية. فهذه الهجمات التي أسفرت عن خسائر ملحوظة، وتباهت بها الحكومات، «لم تُفكّك هياكل العصابات»، بحسب الكاتبة، فيما «هدف الحرب على المخدّرات هو الفشل منذ البداية (...) هم لا يهاجمون الأسباب، هم مهتمّون فقط بتقديم الزعماء الذين تمّت تصفيتهم إلى الجمهور الأميركي باعتبار ذلك انتصاراً»، على حدّ تعبير الخبير في مكافحة المخدرات، فيليبي تاسكون؛ علماً أن النسبة الكبرى من مدمني المخدّرات هم من مواطني الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية.
قرّر غوستافو بترو اعتماد صيغة جديدة «أكثر سلمية»، يجري من خلالها «احتواء» الريفيين


إزاء ما تقدَّم، قرّر غوستافو بترو اعتماد صيغة جديدة «أكثر سلمية»، يجري من خلالها «احتواء» الريفيين عبر «بناء السلام، واستفادة الفلاحين، والتحويل الاقتصادي لبيئات الإنتاج من دون تجريمهم»، على ما تشير إليه «مجموعة الأزمات الدولية». وبالفعل، قامت حكومة بترو، فور وصوله إلى السلطة، بتقديم مشروع قانون إلى البرلمان، يتركّز على «إضفاء الشرعية على الماريوانا الترفيهية، وتقنين المخدّرات». وتعهّدت، توازياً، بالالتزام بـ«اتفاقية السلام» الموقّعة عام 2016 مع «القوات المسلّحة الثورية لكولومبيا» (فارك)، والمضيّ قُدُماً في عمليّة التفاوض، وصولاً إلى «سلام شامل» مع الجماعات المسلّحة وعصابات الإتجار بالمخدّرات المتمركزة في المناطق الريفية. إضافة إلى ذلك، وعدت الحكومة بإدخال تغييرات جذرية على الشرطة والجيش، وتجنّب الاعتماد على القوّة العسكرية، في خطوةٍ تمثّل نسفاً لنهج الحكومة السابقة. وفي هذا السياق، تخلص «الأزمات الدولية» إلى أن وعود الحكومة الجديدة بالتركيز على حماية السكان المدنيين، «تجعل الإصلاح العميق ممكناً»، لأن من شأن تغيير الجيش الكولومبي لأهدافه ولأساليبه، «إعادة بناء الثقة بالجيش في تلك المجتمعات، ما يعني أيضاً أن دوره سيُصبح أكثر فعالية، إضافة إلى توفير حماية أكبر للمدنيين».
يرى مراقبون أن التحوّل الذي يسعى بترو إلى إحداثه، سيكون جذرياً، وسيترك آثاراً إيجابية، في حال نجاحه. لكن، في الوقت نفسه، يشدّد هؤلاء على أن التحوّل سيكون صعباً ومليئاً بالفخاخ، وذلك بالنظر إلى أن العصابات الحديثة باتت تعتمد استراتيجية شديدة العنف في النزاع على الهيمنة الجغرافية. لهذا، سيكون نجاح بترو مرهوناً بفوزه بثقة الجماعات المسلّحة وتجّار المخدّرات بالدرجة الأولى؛ ثم إدارة دور الجيش في التهديدات المسلّحة الداخلية بطريقة مختلفة.