لم تمضِ سوى أيّام قليلة على زيارة نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، إلى كوريا الجنوبية واليابان، بالتزامن مع وصول حاملة الطائرات «رونالد ريغان» الأميركية إلى سيول، للمرّة الأولى منذ نحو أربعة أعوام، لإجراء تدريبات مشتركة، حتّى بادرت كوريا الشمالية إلى إطلاق صاروخ باليستي متوسّط المدى، مرّ من فوق اليابان وسقط في البحر الهادئ. خطوةٌ بدت بالنسبة إلى الأصدقاء والخصوم على السواء، استثنائية لسبَبين رئيسَين: أوّلهما؛ السياق الدولي الساخن الذي جاءت فيه في ظلّ احتدام الصراع بين واشنطن وحلفائها من جهة، وموسكو وأصدقائها من جهة ثانية؛ وثانيهما طبيعة الصاروخ نفسه الذي يُشتبه في أنه أقوى من صاروخ «هواسونغ - 12» (باليستي متوسّط ​​المدى اختبرتْه بيونغ يانغ عام 2017)، إذ حلّق حوالى 2800 ميل، وهي أطول مسافة قطعها سلاح كوري شمالي، وعلى ارتفاع يصل إلى 602 ميل، وهو ما جعل خبراء يَحتملون إمكانية وصوله إلى غوام، المنطقة الأميركية الصغيرة غرب المحيط الهادئ.إثر ذلك، تحرّكت واشنطن وسيول، سريعاً، للردّ على الخطوة الكورية الشمالية؛ إذ أجرت طائرات كورية جنوبية وأخرى تابعة للقوات الجوّية الأميركية تدريبات مشتركة، فيما جرى إطلاق قنبلتَين قبالة الساحل الغربي لكوريا الجنوبية. أيضاً، أطلقَ جيشا البلدين أربعة صواريخ من طراز «MGM ـــ 140» التكتيكي أرض - أرض قبالة الساحل الشرقي لكوريا الجنوبية، سرعان ما سقط أحدها فوراً بعد إطلاقه. وعلى رغم الضجيج الذي أحاط تلك الخطوات، غير أنه من غير الوارد، بالنسبة إلى بعض المحلّلين، أن تذهب إلى أبعد من ذلك، بل إن المسؤولين في كلٍّ من واشنطن وطوكيو وسيول، وعلى رغم تَوقّعهم إجراء «الشمال» تجربة نووية إضافية (علماً أنه سرعان ما قابَل الخطوات الأميركية والكورية الجنوبية الأحدث، بإطلاقه صاروخَين باليستيَّين جديدَين وإرساله طائرات حربية للتحليق فوق الحدود مع جاره الجنوبي)، إلّا أنهم «يستمرّون في الصمت إزاء تجارب بيونغ يانغ»، وفق ما يقول الكاتبان موتوكو ريتش وتشوي سانغ هون، في مقال في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. ويعزو الكاتبان هذا الصمت إلى «محدودية» قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على معاقبة كوريا الشمالية - باستثناء العقوبات الأميركية التي أُقرّت دفْعة جديدة منها أمس -، على خلفية الدعم الروسي والصيني للأخيرة، وعرقلتهما المتوقّعة لأيّ عقوبات أممية عليها، أو حتى بيان إدانة لتصرّفاتها، كما حصل في جلسة مجلس الأمن الأخيرة.
بدأت كوريا الشمالية تستخدم صيغة جديدة لوصْف العلاقة مع موسكو، هي «تعاون تكتيكي واستراتيجي»


هذا الدعم يبدو واضحاً أنه يسلك مساراً تصاعدياً، في ظلّ تعمُّق الانقسام على مستوى العالم، وسعْي كلّ من طرفَيه إلى تعزيز أوراقهما، إلى حدّ يدْفع البعض إلى الحديث عن إرهاصات تحالف ثلاثي بين كلٍّ من روسيا والصين وكوريا الشمالية، في مقابل التحالف الذي يَجمع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا. وإذ يَظهر أن بيونغ يانغ، المعزولة والمحاصرة، تُحاول استغلال التعقيدات الدولية من أجل حجْز مكان لها على الساحة العالمية، فإن بكين، التي استعادت حركة قطارات الشحن بينها وبين الأولى، لا يمكن أن تكون متضرّرة من خطوات حليفتها، بالنظر إلى ما تتيحه لها من أدوات ضغط بوجه واشنطن، والظهور بمَظهر ضابط الإيقاع القادر على كبح جماح أصدقائه. أمّا روسيا، التي عادت اتصالاتها مع كوريا الشمالية بعد توقُّف دام سنتَين بفعل انتشار وباء «كورونا»، فقد فرضت حربها على أوكرانيا «واقعاً جيوسياسياً جديداً أتاح التقارب بين موسكو وبيونغ يانغ بشكل كبير». وفي هذا الإطار، يتحدّث موقع «نورث 38» عن «انحياز لا لبس فيه» من قِبل الكوريين الشماليين إلى الروس، وذلك نظراً إلى «دعمهم الديبلوماسي غير المحدود، واحتمالية مساعدة موسكو عسكرياً». وكان البنتاغون ادّعى، أخيراً، أن روسيا تواصلت مع كوريا الشمالية للحصول على الذخيرة، وهو الأمر الذي نفتْه الدولتان.
وإذ بدا لافتاً بدء الأخيرة باستخدام صيغة جديدة لوصْف العلاقة مع موسكو، هي «تعاون تكتيكي واستراتيجي»، فإن روسيا تَظهر مهتمّة، هي الأخرى، بتمتين صلاتها مع بيونغ يانغ بعد أعوام من الفتور، أخذاً في الاعتبار «الصراع الوجودي» الذي تخوضه مع الغرب، والذي يحتّم عليها توسيع دائرة القوى الداعمة لها، بما يشمل كوريا الشمالية، التي تُعدّ من الدول القلائل المستعدّة لمواجهة الولايات المتحدة علانيةً. وعليه، لا يتردّد بعض المحلّلين إلى الذهاب إلى أن الروس والكوريين الشماليين قد يكونون على وشْك «إعادة تأسيس» التحالف الذي كان قائماً بينهم إبّان الحرب الباردة، قبل أن ينهار مع زوال الاتحاد السوفياتي، في إطار معسكر «شرقي» أكبر يضمّ الصين، خصوصاً أن العلاقات بين هذه الدول الثلاث والتي بدأت في القرن الماضي بتقاطعٍ، تحوّلت فيما بعد إلى تعاون، وتصاعدت اليوم إلى مستوى الشراكة.