يتواصل التوتّر بين كلّ من تركيا واليونان، على خلفيّة ما تقول الأولى إنها «انتهاكات للاتفاقيات الدولية» تقوم بها الأخيرة، من خلال تسليحها الجُزر الواقعة شمال بحر إيجه، والتي تمنح تلك الاتفاقياتُ السيادة عليها لأنقرة. وإذ يصعّد الأتراك تهديداتهم لجارتهم، وسط جوّ في الوسطَين السياسي والإعلامي دافعٍ في هذا الاتّجاه، فإن ثمّة لوْماً واضحاً وعلَنياً للولايات المتحدة باعتبار أنها تخلّت عن حيادها في ما بين الحليفَين، بل وتعمل على تحريض اليونانيين ضدّ تركيا، وفق ما تذهب إليه بعض الأصوات، التي تشدّد أيضاً على ضرورة استغلال الفرصة من أجل فرْض مطالب أنقرة على واشنطن
على إثر التصدّي اليوناني لطائرات «إف 16» التركية مطلع الشهر الجاري، أطلق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، تحذيراً كان اشتُهر به سابقاً لدى مخاطبته العراق وسوريا، قائلاً: «سنأتي فجأةً ذات ليل». ولكن التحذير، هذه المرّة، كان ضدّ اليونان، التي تَوعّد بتدفيعها «ثمناً باهظاً» على خلفيّة «انتهاكاتها»، قاصداً بذلك استمرارها في تسليح بعض الجُزر القريبة من الساحل التركي، بما يخالف المعاهدات الدولية ويُبطلها، ويجعل مسألة عودة تلك الجُزر إلى السيادة التركية الكاملة، حتمية، علماً أنه في الميزان العسكري، لا تتطلّب هذه المسألة جهداً تركيّاً استثنائياً؛ إذ إن المناطق المُشار إليها هي بحُكم الساقطة عسكريّاً، نظراً إلى أنها تبدو جزءاً من الساحل التركي وليس اليوناني، فضلاً عن كوْنها أقرب إلى جزيرة قبرص التي غزاها الأتراك في عام 1974، ولا يزالون متواجدين فيها.
وانفجرت الخلافات بين أنقرة وأثينا بعد اتّهام الأولى للثانية، الشهر الماضي، بـ«انتهاك الاتفاقات الدولية»، من خلال القيام بتسليح جزيرتَي سيسام وميديلّي. وبحسب تركيا، أقدمت اليونان، الأحد الماضي، أيضاً، على نشْر 23 آلية عسكرية في ميديلّي، و18 أخرى في سيسام، بمساعدة الولايات المتحدة التي نقلت سفنُها الآليات والأسلحة اليونانية إلى الجزيرتَين، وهو ما رصدتْه مسيّرات تركيّة والتقطت صوراً له، وفق أنقرة. ونُسب إلى مصادر عسكرية تركية قولها إن الصور تمثّل «أوضح دليل» على انتهاك الوضع القانوني للجُزُر، الأمر الذي يتعارض مع كوْن اليونان حليفاً لتركيا في «حلف شمال الأطلسي»، ويجعل الوضع «غير مقبول أساساً». ودعت المصادر إلى الحوار من أجل إيجاد حلٍّ ينسجم مع القوانين الدولية، فيما رفْض اليونان الحوار أو المشاركة في الاجتماعات، عادةً، يُظهرها بمظهر مَن يزيد من حدّة التوترات. وتتّهم أنقرة، أثينا، بأنها تُسلّح، منذ عام 1952، الجُزر الـ23 التي حدّدتها «معاهدة لوزان» على أنها تابعة لأثينا، لكن منزوعة السلاح.
على أن الحوادث الأخيرة دفَعت الرئيس التركي إلى إعلاء صوته، حيث هدّد اليونان بأن «الدعم الأميركي والأوروبي لن ينقذها»، وأن «جُلّ ما تفعله هو الاستفزاز الذي لن يفيدها، لأن تركيا أقوى بما لا يُقاس»، معتبراً الإجراءات اليونانية في الجُزر «احتلالاً سرّياً». ولم تَفُت إردوغان، خلال خطابه الأربعاء أمام رؤساء فروع «حزب العدالة والتنمية»، العودة إلى التاريخ، بتذكيره أثينا بمعركة بريفيزي في 28 أيلول 1538، والتي انتصر فيها القائد البحري التركي الشهير، خير الدين بربروس، على الأسطول الصليبي في منطقة بريفيزي في شمال غربي اليونان، وأفضت إلى تحويل المتوسّط إلى بحيرة عثمانية. كذلك، حذّر إردوغان، جارته، من التعرّض لحقوق الأقلّية التركية في تراقيا الغربية. وفي حوار لاحق مع قناة «D» التلفزيونية التركية، اتّهم الرئيس التركي، الولايات المتحدة، بأنها لا تقف على الحياد بين حليفَيها، مضيفاً أنه يُنتظر منها ألّا تُدخل اليونان في «حسابات خاطئة»، مشدّداً على أن «تجريد الجُزر من السلاح هو الشرط الوحيد لنزع فتيل التوتّر». من جهته، دعَم مجلس الأمن القومي التركي، أوّل من أمس، مواقف إردوغان ببيان جاء فيه أن تركيا «لن تتردّد في استخدام الوسائل المتاحة والمشروعة كافة للدفاع عن حقوق ومصالح الأمّة التركية». وفي رسالة غير مباشرة إلى الولايات المتحدة، ذكر البيان أن تركيا تدعو «الذين يحرّضون اليونان في موضوع تسليح الجُزُر إلى تحكيم العقل السليم»، بعدما بدت أثينا، لدى ردّها على تهديدات إردوغان بأنه سيواجه «حلف شمال الأطلسي» بأكمله وليس اليونان فقط، وكأنها تستقوي بـ«الناتو».
انفجرت الخلافات بين أنقرة وأثينا بعد اتّهام الأولى للثانية، الشهر الماضي، بـ«انتهاك الاتفاقات الدولية»


إزاء ذلك، يَلفت الأمين العام السابق لوزارة الدفاع التركية، العقيد المتقاعد أوميت ياليم، إلى أن «الاتفاقيات الدولية تقضي بعدم إقامة قواعد عسكرية في الجُزُر أو عدم استخدامها لأغراض عسكرية»، مضيفاً أن «هذه الاتفاقيات تسمح لليونان باستخدام الجُزُر، لكنّ السيادة هي لتركيا». ويشير ياليم إلى أن «نشر مدرّعات عسكرية أميركية في جزيرتَي ميديلي وسيسام أخيراً، ينتهك قرار الدول الستّ الكبرى بتاريخ 13 - 14 شباط 1914، كما المادّتَين 12 و14 من معاهدة لوزان»، معتبراً أن «على تركيا أن تُقدّم مذكّرة بهذا الخصوص إلى الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي». ويُذكّر بأن «اتفاقية الدول الكبرى الستّ عام 1914، وهي ألمانيا والنمسا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وروسيا، دعت اليونان إلى سحْب أيّ مظاهر عسكرية من جُزُر شمال بحر إيجه»، مشدّداً على أنه «في حال لم تلتزم أثينا بهذه الاتفاقية، فيجب أن تُعطى الجُزُر من جديد إلى تركيا، وأن تتمركز فيها وحدات تركية، وتعود السيادة عليها كاملة إلى أنقرة». وينبّه ياليم إلى أن «الحكومة اليونانية برئاسة ميتسوتاكيس احتلّت عام 2019 جزر تشوها وموغلا ليمنيه وموغلا بلاتي قاياليغي، من دون أن تُحرّك تركيا ساكناً، بل حتى لم تعترض ولو بمذكّرة»، مضيفاً أن «الصمت التركي شجّع اليونان على توسيع احتلالها وتسليح جُزُر أخرى». ويرى أنه «إذا لم ترفع تركيا الصوت عالياً، فإن اليونان ستُواصل استغلال غياب ردّة الفعل».
وفي الاتّجاه نفسه، يعتقد الجنرال المتقاعد، جيهانغير دومانلي، أن «على الحكومة التركية أن تَبذل الجهود لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل تسليح الجُزُر، وحينها سيسجَّل هذا نجاحاً للحكومة التركية». ولكن المشكلة، بحسب دومانلي، هي أن «نظام الفرد الواحد (الرئاسي) أظهر قصوراً في كيفية إدارة أزمة الجُزُر، كما في إدارة قضايا أخرى لا تتطلّب مجرّد مواقف آنية انفعالية». ومن هنا، يدعو إلى «تشكيل خليّة أزمة من ديبلوماسيين ورجال استخبارات وخبراء بعيداً عن الانتماء السياسي أو الحزبي لهؤلاء، ومناقشة الموضوع في البرلمان، وعدم توظيف القضية أداة في السياسة الداخلية، والقيام بحملة عالمية لإظهار حقوق تركيا وانتهاكات اليونان، والابتعاد داخلياً عن الخُطب الحماسية وغير اللائقة ديبلوماسياً وغير المقنعة وعديمة الفائدة، وأخيراً إظهار القوّة الرادعة للجيش التركي».
من جهته، يرى محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات»، أن «اللعبة أميركية؛ حيث تريد واشنطن أن تكون اليونان بمرتبة الحليف، بينما تركيا مجرّد شريك. وبالتالي، فهي تسعى لإقامة ستار حديدي جديد في شرق المتوسّط، تكون اليونان لا تركيا هي قاعدته الأمامية، ومن هنا العمل على تحويل الأولى إلى القاعدة العسكرية الجديدة المتقدّمة للولايات المتحدة في منطقة الشرق، بمواجهة روسيا وغيرها، بدلاً من الثانية». ويَعتبر غولر أن «اليونان تحاول استغلال هذا التحوّل الأميركي لتثبيت شرعيّتها على الجُزُر المذكورة، ومن ثمّ توسيع مجال سيطرتها بحراً وجوّاً، وتسعى لتوظيف كلّ ذلك في الانتخابات النيابية المبكرة المحتمَل إجراؤها في العام المقبل». ويَلفت إلى أن «أثينا تمضي في تصعيدها ضدّ أنقرة، مدعومةً هذه المرّة من واشنطن، حيث قامت قبل حوالي الشهر بمضايقة طائرات إف 16 التركية فوق إيجه، والتشويش على رادارات هذه الطائرات بتدخّل مباشر من منظومة صواريخ أس 300 المتمركزة في جزيرة كريت». ويعتقد الكاتب أن «الولايات المتحدة تدرك اللعبة اليونانية، ولذا، فهي لا تفضّل بلداً على آخر، بل تستخدم الواحد ضدّ الآخر لتعزيز هيمنتها هي»، مشدّداً على أهمّية أن «تُحوّل تركيا مضايقة إس 300 للطائرات التركية، إلى فرصة للقول لمعارضي شراء إس 400 من روسيا، إنه إذا كانت المنظومة الأولى قد استُخدمت في مناورات أطلسية ولم تؤثّر على التنسيق بين المنظومات الدفاعية الأطلسية، فهذا يعني أن معارضة المنظومة الثانية ليست في محلّها، ولا تتعارض مع منظومة الدفاع العسكرية الأطلسية».
بالنتيجة، تأتي أزمة تسليح جُزُر إيجه لتُضيف إلى الخلاف حول حدود المياه الإقليمية والجرف القاري والمجال الجوّي وحدود المناطق الاقتصادية الخالصة ومسلمي تراقيا الغربية وجزيرة قبرص، ملفّاً خلافياً جديداً. وإذا كان كلّ طرف يوظّف هذا الخلاف لمصالح انتخابية داخلية، فإن كوْن واشنطن شريكاً في التوتّر الجديد، قد يجعل منه هذه المرّة أكثر تعقيداً، ولكن أيضاً أقلّ احتمالاً لانفجاره عسكرياً.