مع وصول المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني إلى طريق مسدود، وتنامي التعاون بين طهران وموسكو في مختلف الميادين، بما فيها العسكرية، يبدو الغرب شديد التحفّز لتشديد ضغوطه على إيران في المجالات كافة. ضغوطٌ لا تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون أفضل من حادثة وفاة مهسا أميني، كفُرصة لتسليطها، بما يهيّئ الظروف لإشعال حريق يأتي على الأخضر واليابس في هذا البلد. ويكاد ذلك لا يشذّ عن سياسات الغرب المتقادمة، والقائمة على استغلال أيّ تناقضات اجتماعية في البُلدان المستهدَفة، ومحاولة تسعيرها لتوظيفها في إطار استراتيجية الهيمنة
العواطف الجيّاشة، ومشاعر «التضامن الخالصة» و«المنزَّهة عن أيّ أغراض»، التي عبّر عنها المسؤولون الغربيون وأجهزة دعايتهم الأيديولوجية حيال موجة الاحتجاجات التي شهدتها إيران خلال الأسبوع الماضي، تكاد تُنسي لوهلة سياسات الحرب والحصار والضغوط القصوى وغير القصوى التي اعتمدها هؤلاء المسؤولون ومَن سبقهم في مواقع القرار، منذ أكثر من 4 عقود، تجاه هذا البلد وشعبه. لا حاجة للتذكير بالويلات التي حلّت بذلك الشعب نتيجة لثورته التي أسقطت النظام «الشاهنشاهي» والخيارات الاستقلالية التي اتّخذها، وما نجم عنها من عداء غربي مُستحكم تجاه إيران منذ 1979. ثماني سنوات من حرب مفروضة شنّها العراق بتشجيع ودعم من الغرب، تلاها حصار سياسي واقتصادي متفاوت الحدّة بحسب المراحل، ومساعٍ مستمرّة لزعزعة الاستقرار، كانت جميعها ترجمة عمليّة للعداء الغربي المديد. لم تتحرّك طوال هذه العقود أحاسيس الغربيين «النبيلة» أمام معاناة ملايين الإيرانيين المتأتّية مباشرة عن سياسات حكوماتهم. غير أن التظاهرات الأخيرة التي تخلّلتها شعارات مناهضة للنظام الإسلامي وللحجاب، «أيقظت» تلك الأحاسيس تجاه الإيرانيين الذين «يشبهوننا».
لا جديد تحت الشمس. الولايات المتّحدة تفرض حصاراً تجويعيّاً على كوبا وشعبها، منذ أكثر من 60 عاماً، لكنها تٌسارع لتنظيم حملات التأييد والمساندة لمئات المتظاهرين المناهضين لنظامها باسم «حقوق الإنسان» و«الديموقراطية» وغيرها من الفقاعات الأيديولوجية. الأمر نفسه ينطبق على فنزويلا وبوليفيا والصين وروسيا، وأيّ دولة أخرى ترفض التسليم بهيمنتها. ومن منظور تاريخي طويل، فإن مقولات من نوع «حقوق الإنسان» والأقلّيات والنساء، كانت جزءاً لا يتجزّأ من ترسانة الغرب الأيديولوجية لتبرير تدخّلاته الاستعمارية وتأبيد سيطرته على غيره من البلدان والمجتمعات. أيامَ حرب الجزائر مثلاً، قامت زوجة الجنرال الفرنسي ماسو، المسؤول عن أفظع الجرائم ضدّ الإنسانية خلالها، بتوزيع آلاف آلات الخياطة على جزائريات، ليصبحن عاملات ويمتلكن دخلاً، وهلّل الإعلام الفرنسي آنذاك لهذه العملية تحت شعار «فرنسا تُحرّر النساء في الجزائر»! استغلال أيّ تناقضات اجتماعية، ومحاولة تسعيرها لتوظيفها في إطار استراتيجية الهيمنة، تكتيك استعماري قديم ومكشوف، يجري حالياً اعتماده ضدّ إيران. يقوم بذلك راهناً تكتّل غربي مسعور يخوض ما يراه معركة وجودية للحفاظ على هيمنته المتداعية، ولا يتورّع في سبيل ما تَقدّم عن استهداف وحدة الدول والمجتمعات، أكان في إيران، أو في روسيا والصين. أيّ مقاربة لأحداث إيران خارج هذا السياق، ستُفضي بالضرورة إلى خلاصات خاطئة. مسألة إلزامية الحجاب شأن إيراني داخلي لا يعني الغرب، وعمل الأخير على استخدام الاحتجاجات المرتبطة بالشأن المذكور كشرارة لإشعال حرائق أخرى، على خلفية إثنية أو طائفية، يندرج في إطار حربه الهجينة ضدّ طهران.
يراهن الغرب على أن تكون «قضية النساء» مقدّمة لتفجير تناقضات أخرى


إلزامية الحجاب شأن إيراني
النساء الإيرانيات «الشجاعات» في عُرف الخطاب الغربي السائد، هنّ المئات اللواتي خرجْن إلى الشوارع لاتّهام شرطة الأخلاق الإيرانية بالمسؤولية عن وفاة الشابة مهسا أميني، وإعلان معارضتهن لإلزامية الحجاب. أمّا عشرات آلاف الإيرانيات اللواتي شاركْن في التظاهرات المؤيدة للنظام الإسلامي ولإلزامية الحجاب، فقد بقين «غير مرئيات». في الواقع، يتّصل هذا التعامي المتعمّد بجملة اعتبارات ثقافية ــــ أيديولوجية، وسياسية. فالمرأة المحجّبة بالنسبة لأصحاب ذلك الخطاب كائن تابع، خاضع للهيمنة البطريركية، لا يمتلك إرادة حرّة، بالتالي لا ضرورة لأخذها في الاعتبار. لا تغيّر من هذه النظرة، التي تعكس تجذّر الإسلاموفوبيا الكولونيالية في الثقافة الغربية المهيمنة، حقيقة أن ملايين المحجّبات في إيران يشاركْن في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد، وبعضهنّ يحتللْن أرفع المناصب في مؤسّسات الدولة. وبطبيعة الحال، فإن تجاهلهنّ يسهّل تصوير ما يجري في إيران على أنه مواجهة بين «النساء» ونظام يضطهدهنّ. لا ريب في أن بعض قطاعات الرأي العام في إيران، بخاصة بين الشباب، تُعارض إلزامية الحجاب، غير أن قطاعات أكثر وزناً تؤيّدها، وهو ما أظهرته التظاهرات المشار إليها. يمتلك النظام الإسلامي الإيراني قاعدة موالية صلبة، وعقائدية، لا تتمتّع بها الأحزاب الحاكمة في الرأسماليات البرلمانية والديموقراطيات العتيدة، التي غالباً ما يفوز مرشّحوها بالانتخابات نتيجة لتصويت اعتراضي ضدّ مرشحين آخرين، وليس تماهياً مع برامجهم السياسية. كيفية إدارة الإيرانيين لتناقضاتهم الاجتماعية والسياسية، والتسويات والتوافقات التي يتوصّلون إليها، هي جميعها جزء لا يتجّزأ من «شؤونهم الداخلية» التي تعنيهم وحدهم وفقاً لمبدأ السيادة، الذي تتمسّك به الشعوب التي خضعت للسيطرة الغربية واكتوت بنارها.

سياسة إشعال الحرائق
التعامل الغربي مع الاحتجاجات في إيران، ينطلق من رهان على أن تكون «قضية النساء» مقدّمة لتفجير تناقضات أخرى، إثنية ومذهبية، تتسبّب بزعزعة استقرار النظام وإضعافه. كان من اللافت أن المواجهات الأشدّ عنفاً وقعت في المناطق الكردية الإيرانية وفي منطقة سيستان-بلوشستان. تتّخذ مجموعة من التنظيمات الكردية الانفصالية من كردستان العراق قاعدة خلفية منذ سنوات طويلة لشنّ هجمات ضد الأراضي الإيرانية، كتنظيم «كومله»، و«الحزب الديموقراطي الكردستاني» في إيران، وحزب «بيجاك». لم يعد سرّاً أن هذه التنظيمات تحظى بدعم أميركي وإسرائيلي متزايد، وأن هذَين الطرفين يعتمدان عليها كقوّة رديفة في بعض عملياتهما الأمنية ضدّ إيران. وبما أن المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني قد وصلت إلى طريق مسدود، فإن توظيف مثل تلك القوى لتصعيد الضغوط على طهران، بات مطلوباً أكثر من السابق. ويأتي التعاون المتنامي بين طهران وموسكو في مختلف الميادين، بما فيها العسكرية، في ظلّ احتدام المجابهة الاستراتيجية في أوكرانيا، ليمثّل حافزاً إضافياً لتشديد الضغوط الغربية على الثانية. تكتّل غربي مسعور يخوض معركة في كلّ الاتجاهات للحفاظ على هيمنته، لن يتردّد في استغلال أيّ قضية لاستهداف مَن يشكّل عقبة أمامها، ولا أن يذرف دموع التماسيح على مهسا أميني، بينما مشروعه الفعلي هو إشعال حريق يأتي على الأخضر واليابس في إيران.