لا تُخفي إسرائيل اغتباطها بتعثُّر المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة بوصْفه «انتصاراً آنياً»، بعدما كانت تل أبيب تأْمل إعلان فشل المفاوضات وطيّ صفحتها نهائياً. في المقابل، لا يبدو أن صاحب القرار في طهران يجد نفسه مضطرّاً لتقديم تنازلات لواشنطن، على رغم الفائدة الاقتصادية الكبيرة المتوقّعة من الاتفاق النووي. وبين هذه وتلك، يظلّ اللايقين مسيطراً على المشهد المتّصل بهذا الملفّ، وسط ارتباك إسرائيلي بخصوص التعامل مع المرحلة اللاحقة، سواءً جرى إحياء الاتفاق أم لم يتمّ. ووفقاً لِما يَصدر عن تل أبيب، ثمّة ثلاثة سيناريوات لمآل المحادثات: أوّلها انتهاؤها إلى اتفاق بعد «تدوير الزوايا»؛ وثانيها بقاؤها لِذاتها في إطار مراوحة لا تنتهي؛ وآخرها إعلان فشلها. والأكيد أن إسرائيل تفضّل السيناريو الأخير، إذا لم يكن بالإمكان التوصّل إلى اتفاق يمنع عن إيران القدرة النووية المدنية والعسكرية على السواء، ويحظر عليها أيضاً تطوير السلاح الصاروخي النوعي والطائرات المسيّرة، كما ويكبّلها إقليمياً ويعزل حلفاءها في ساحات المقاومة المختلفة.على أن إشكاليات كثيرة تبْقى محيطة بالسيناريو المذكور، لناحية تمنّي الإسرائيليين أفعالاً أميركية ضدّ إيران - بوصْف واشنطن صاحبة القدرة المادّية على الإتيان بهكذا أفعال - في أعقاب تَحقّقه، تُدرك تل أبيب مسبقاً أنها غير مطروحة على الطاولة، وأن كلا الحزبَين، الجمهوري والديموقراطي، مُجمعان على استبعادها. واللافت في المقاربة الرسمية الإسرائيلية، هو أن الحكومة الحالية (تحالف يائير لابيد - بني غانتس) تلوم رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، على دفْعه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إلى الانسحاب من اتفاق عام 2015، من دون أن تملك هي استراتيجية بديلة لدفْع إيران إلى التخلّي عن طموحاتها النووية، أي أنها عملياً تقف في الموقف نفسه الذي تضع نتنياهو فيه. ومع ذلك، فهي لا تتردّد في التفاخر بدور مفترض لها في عرقلة إحياء «خطّة العمل المشتركة الشاملة».
وعلى رغم الاحتفاء الإسرائيلي بما سمّاه غانتس «إغلاق ملفّ الاتفاق النووي»، إلّا أن الواقع يقول إن المفاوضات لمّا تغادر المربّع الذي كانت تُراوح فيه منذ زمن، وعنوانه: تعثّر فتقدّم ومن ثمّ تعثّر فتقدّم. ويُضاف إلى ذلك، اقتراب محطّة الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، والتي ستتصاعد عشيّتها الضغوط الداخلية على إدارة جو بايدن، ما قد يحملها على تقديم مزيد من التنازلات، أسوةً بما فعلته إدارة باراك أوباما عشيّة التوقيع على اتفاق عام 2015، مدفوعةً - أقلّه في جزء من قرارها - بالضغوط المُشار إليها نفسها. وعليه، يمكن القول إن الصفقة لا تزال تملك حظوظاً، وإن كان للفشل أيضاً مكان يُعتدّ به، خصوصاً أن الظروف التي تعيشها إيران حالياً، لا تُقارَن بتلك الضاغطة التي مرّت بها قبل سبع سنوات.
بناءً على ما تَقدّم، يمكن تقرير الآتي:
من جهة إيران، يتقدّم البرنامج النووي بلا إبطاء، فيما المخزون الحالي من اليورانيوم المخصّب بات يكفي لإنتاج خمس قنابل نووية في غضون أربعة أشهر، وهو ما لا يحتاج إلّا إلى قرار يَصدر من أعلى، بعد أن تَجاوزت طهران - على المستوى التقني والفني - العراقيل النظرية والعملية. ويُضاف إلى ذلك، أن تقليص عمليات إشراف «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» على البرنامج، يتيح لإيران اتّخاذ خطوات نووية في اتّجاه القدرة العسكرية، من دون أيّ رقابة خارجية. وتكمن خطورة هذا الموقف في أن استمراره غير مرهون بمسار التفاوض مع الأميركيين، بل إن فشل الأخير سيؤدّي إلى تسريع وتيرته، وهو ما يشكّل عامل إقلاق كبيراً لإسرائيل، في ظلّ عجزها المادّي الذاتي عن المواجهة.
من جهة إسرائيل، يمكن الحديث عن خسارة بأوجه متعدّدة، سواءً تمّ التوصّل إلى اتّفاق أم لم يتمّ، إذ تتخلّى الولايات المتحدة، في كلتا الحالتَين، عن الخيار العسكري في مواجهة إيران، بل وحتى عن التهديد به - وإنْ لخدمة عملية التفاوض نفسها -، الأمر من شأنه تجريدها ممّا كانت تَعتبره تل أبيب عنصر تفوّق وأداة ضغط. وتفسير هذا التخلّي هو أن واشنطن تُقدّر مسبقاً أن طهران لن تذعن تحت وطأة التهديدات، ما سيضع الأولى في موقف شديد الحراجة في حال أشهرت ورقة الوعيد العسكري، ولم تُقدِم على تفعيلها لاحقاً. كذلك، تخسر إسرائيل رهانها على أن إيران كانت ستتلقّف دعوة إدارة بايدن إلى العودة إلى اتفاق عام 2015، ولن تتأخّر قبل أن ترضخ لسلّة التعديلات التي تريدها تل أبيب كاملة، وأهمّها: إنهاء التخصيب، ونقل المادة المخصَّبة إلى خارج إيران، وأن تكون الصفقة بلا سقوف زمنية، كما وأن تشمل جميع القدرات الإيرانية، بما فيها تلك الصاروخية والجوّية، وأيضاً النفوذ الإقليمي. في المقابل، استحصلت إيران على مروحة فوائد من خلال العملية التفاوضية نفسها، من بينها إقرار أميركي متجدّد بأن المفاوضات لا تشمل إلّا الملفّ النووي، وارتداع واشنطن عن أيّ مقاربة متطرّفة رغبةً منها في بقاء المحادثات حيّة ولو ماتت سريرياً، هو ما أثقل بدوره على «الزكزكات» الإسرائيلية في الميدان.
المفاوضات لمّا تغادر المربّع الذي كانت تُراوح فيه منذ زمن


على خلفية كلّ ما تَقدّم، تتّضح خلفيّات اعتبار «مركز أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، أن الخيار الأمثل، وربّما الوحيد، هو العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وتجديده إلى ما لا نهاية. على أن صاحب القرار الإيراني يبدو واضحاً أنه بات في ظرف أكثر ملاءمة له للتريّث والتمسّك بمطالبه ومحاولة تحصيل أكبر قدْر منها، ولعلّ هذا ما يفسّر تصلُّب طهران، في موازاة تمسّك واشنطن باستمرار المفاوضات في ظرف دولي بات مشبعاً بالتحدّيات بالنسبة إليها. وانطلاقاً من إدراكها لذلك الواقع، ولحقيقة أن فشل إحياء الصفقة النووية لن يستتبع مقاربة متطرفة أميركية متطرّفة ضدّ إيران، بل مزيداً من الإصرار على التفاوض، والانفتاح على تقديم تنازلات باتت هي السمة الرئيسة للأداء الغربي في الملفّ النووي - بالنسبة إلى تل أبيب -، تجد الأخيرة نفسها إزاء مشهد غير مبشّر إطلاقاً، على رغم حالة الانتشاء التي تعيشها حالياً.