لندن | بينما بدأت بريطانيا مراسم حداد على رحيل الملكة إليزابيث الثانية ستستمرّ لعشرة أيام، تتّجه الأنظار نحو نجلها البكر، أمير ويلز، تشارلز، الذي سيُنادى به ملِكاً تحت اسم تشارلز الثالث، من قِبَل هيئة ملَكيّة خاصة تجتمع اليوم في قصر سانت جيمس، بحضور المستشارين ورئيسة الوزراء وكبار أعضاء الحكومة ورجال الدولة. وعلى الرغم من أن الملك الجديد عُرف في مراحل سابقة بمشاغباته ومحاولاته التدخّل في عمل السلطات التشريعية والتنفيذية، إلّا أن الخبراء في الشؤون الملَكيّة البريطانية يميلون إلى الاعتقاد بأنه سيحافظ الآن على النسق المتحفّظ الذي اتّبعته والدته خلال العقود الماضية، ولن يسعى إلى فرض أيّ تغييرات حاسمة في الدور السياسي للسُلالة الحاكمة
بدأت بريطانيا فترة حداد تستمرّ لعشرة أيام، على ملِكتها الراحلة إليزابيث الثانية (1926 - 2022)، بعد 70 عاماً من تولّيها عرش المملكة المتّحدة. وكان قصر الحُكم في بكنغهام قد أعلن وفاة أطْول حكّام بريطانيا خدمةً (بداية من 1952) عن عمر يناهز 96 عاماً في الساعة السادسة والنصف من مساء الخميس، وذلك بعد ساعات قليلة من تواتُر الأنباء عن معاناتها من وضع صحّي حرج، أُبلغت به رسميّاً رئيسة الوزراء ليز تروس، ومجلس العموم الذي كان منعقداً، وتطلّب استدعاء وليّ عهدها أمير ويلز، تشارلز، ليكون إلى جانب سريرها في قلعة بالمورال الاسكتلندية، برفقة أفراد آخرين من العائلة المالكة. وستُوارى الملِكة الثرى في كنيسة بُنيت لذكرى والدها الملك جورج السادس داخل حرم قلعة وينسور (غربيّ لندن)، حيث كان مقرّ إقامتها الأثير. وأدّت الراحلة آخر مهمّة رسمية لها يوم الثلاثاء الماضي، عندما كَلّفت ليز تروس من «حزب المحافظين» بتشكيل حكومة جديدة، لتكون الأخيرة بذلك رئيس الوزراء الخامس عشر في عهد إليزابيث، بعدما كان أوّلهم ونستون تشرشل. وقد طال عهد الملِكة حتى التقت بـ 13 من آخر 14 رئيساً أميركياً، وكانت، إلى جانب منصبها الملكي، رأساً للكنيسة الإنغليكانية، كما «الكومونوليث» الذي يجمع ثلاثة وخمسين بلداً خضعت للإمبراطورية البريطانية في وقت ما، إضافة إلى دورها كحاكم رمزي لعدّة دول عبر العالم من أوستراليا إلى كندا.
ونُكّست الأعلام على المباني الرسمية والعامّة حتى مستوى نصْف السارية، وبدأت الأجهزة الملَكية والحكومية والدينية سلسلة معقّدة من الإجراءات الفولكلورية المُعَدّة بعناية لتكريس مكانة السلالة الحاكمة في أنفس الرعايا، فيما ثمّة خطط محدَّدة صيغت منذ بعض الوقت، لضمان عدم حدوث فراغ دستوري أو تقني أثناء عملية التوريث. وكانت السلطات البريطانية قد احتفلت، قبل أسابيع، بالذكرى السبعين لاعتلاء العرش من قِبَل الملِكة الراحلة، التي يردّد أنصار الحُكم الملَكي أنها مثّلت سرّ استمرارية بريطانيا واستقرارها في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، حيث قامت بدور شخصية موحِّدة وعابرة للخلافات السياسية في أوقات الأزمات. لكن آخرين يرون أنها قدّمت غطاءً مزخرفاً وخادعاً لهيمنة أقلّية لم تتوقّف يوماً عن أداء أدوار إمبرياليةِ النزعة عبر العالم، فضلاً عن تعميقها الفروق الاجتماعية والاقتصادية بين الطبقات داخل البلاد.
يبدو تشارلز، وهو يخطو إلى سبعينيّات عمره، أنّه فقد الاهتمام بفكرة أداء دور فاعل


ومع غياب إليزابيث الثانية، تتّجه الأنظار نحو نجلها تشارلز، الذي تجتمع اليوم هيئة التوريث الملَكيّ - المكوَّنة من أعضاء مجلس الملكة الخاص - للمناداة به رسمياً ملكاً على البلاد، بلقب تشارلز الثالث. وسيُطلب إلى عشرات المستشارين في البلاط الملَكيّ، كما رئيسة الوزراء وكبار الوزراء في حكومتها، الحضور للاستماع إلى الإعلان الذي سيُتلى عليهم، قبل أن يوقّعوا عليه بنسخته الورقية. وبعدها، سينضمّ إليهم الملك الجديد لتقديم إعلان شخصي وأداء قسَم قانوني، ليُصار تالياً إلى قراءة الإعلان خلال الأيام المقبلة في القلاع الملَكيّة وعواصم الأقاليم الأربعة - التي تشكّل المملكة المتحدة - ومراكز المدن والأحياء والأبرشيات في جميع أنحاء البلاد. وعلى مدى عقود، وبينما كان الأمير تشارلز ينتظر على مقعد الاحتياط، رأى كثيرون أنه سيميل حال تولّيه العرش إلى انتهاج أسلوب أكثر تدخُّلاً في الشأن العام، مقارنةً بسياسة والدته الأكثر تحفّظاً. ونشرت صحف بريطانية، عام 2015، نصوص رسائل بعث بها الأمير إلى وزراء في الحكومة تحمل وجهات نظره بشأن قضايا مختلفة مِن مِثل تَغيّر المناخ. ورأى المراقبون وقتها أن تلك إشارات إلى أنه لن يكون محايداً سياسياً عندما يخلُف الملِكة، وقد يسعى لإعادة رسم حدود العلاقة بين التاج والبرلمان.
ومع أن النظام الملكي في بريطانيا يصنَّف على أنه دستوري (علماً بأنه ليس هناك دستور مكتوب)، إلّا أن صاحب العرش لديه سلطات (نظرية) لرفض القوانين التي يقرّها البرلمان - إذ لا تصبح نافذة إلّا بموافقته -، كما لديه امتياز حلّ البرلمان أو استدعائه للانعقاد، وصلاحيّات تكليف مرشّحيه بتشكيل الحكومات وقبول استقالاتهم، وعزل الوزراء، وإصدار جوازات السفر ومنْح العفو الملكي، وإعلان الحرب. ويؤدي الملك، أيضاً، دور القائد الأعلى للجيش البريطاني الذي يَدين بالولاء له (لا للوطن). على أن تاريخاً طويلاً من الحفاظ على التوازن بين العرش والبرلمان وفق ما دُوّن في «شرعة الحقوق - 1689»، يدفع إلى التقليل دائماً من أيّ جموح ملَكيّ. وتعود آخر واقعة لملك بريطاني رفض قوانين أقرّها البرلمان، إلى عام 1707 (الملكة آن). ويبدو الأمير، وهو يخطو إلى سبعينيّات عمره، قد فقدَ الاهتمام بفكرة القيام بدور فاعل، بعدما أعطى إشارات صريحة بداية من عام 2018 إلى أنه لو تولّى العرش، سيحافظ على النسَق الراهن من التوازنات السيادية، وأنه سيعمل دائماً ضمن «المعايير الدستورية» ويحترم إرادة البرلمان. ومن المرجّح أن هذه التصريحات كانت مدروسة بعناية، بسبب الحاجة إلى تغيير صورة الأمير كمشاغب وساعٍ للتدخل في تفاصيل الشأن العام قبل تولّيه العرش وبدء نقل الصلاحيات تدريجيّاً إليه، وطمأنة النُخبة الحاكمة إلى أنه سيحافظ على الاستقرار الدستوري خلال فترة حُكمه.
أمّا خارج إطار الشؤون الملَكيّة المحضة، فإن المسألة التي ما فتئت تشْغل البريطانيين، لا تزال وبامتياز أزمة الارتفاع الفلَكي في تكاليف المعيشة بسبب الصراع الأميركي - الروسي الذي انتقل إلى سوق الطاقة، ويهدّد الآن بموجة ركود اقتصادي عميق بدأت إرهاصاتها بالظهور، وقد تتسبّب بسقوط ملايين العائلات في دائرة الفقر والعجز عن تسديد فواتير الطاقة المنزلية. ويخشى كثيرون من أن يتسبّب تعطيل البرلمان بسبب وفاة إليزابيث الثانية في تأخير البتّ في إجراءات طوارئ استثنائية كانت تروس، رئيسة الوزراء الجديدة، تدفع في اتّجاه الحصول على تأييد مجلس العموم لها، وتهدف إلى فرض سقف على قيمة فواتير الطاقة، على أن يُغطَّى الفرق من الخزينة العامة. لكن مصادر «10 داوننيغ ستريت» قالت أمس إن جلسة طارئة خلال فترة الحداد قد تُعقد لضمان التوافق على خطط تروس، قبل بدء سريان الأسعار الجديدة في الأوّل من تشرين الأول المقبل.
وكانت تروس قد خالفت كلّ تصريحاتها خلال حملتها الانتخابية بشأن منهجيّتها الموعودة في التعامل مع الأزمة الاقتصادية المتصاعدة ومبادئ السوق الحرّة التي يدعمها حزبها، وفاجأت العموم بخطّتها لفرض سقف متدنِّ نسبياً على فواتير الطاقة. وبحسب ما تَسرّب إلى الصحف، فسيتمّ، وفق الخطّة، تجميد فاتورة الطاقة المنزلية النموذجية عند 2500 جنيه استرليني للعامَين المقبلَين (مقارنة بمعدّل 1950 جنيهاً حالياً)، في ما يمثّل تدخُّلاً حكومياً غير مسبوق عبر تاريخ المملكة منذ تأسيسها. ويبدو أن تلك كانت استجابة في وقت قياسي لتحذيرات قيادات الحزب الحاكم ومرجعيّات في البلاط الملَكيّ، من أن البلاد قد تشهد اضطرابات واسعة إن بقِيت أسعار الطاقة محرَّرة. لكن بنك إنكلترا المركزي لديه، مع ذلك، تحفّظات على طبع المزيد من الأموال بلا رصيد فعلي، واعتماد ألاعيب الهندسات المالية لامتصاص نقمة الشارع، ما قد يضاعف من التضخّم، ويتسبّب بتراجُع قيمة العملة، التي فَقدت أكثر من 8 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي خلال الأسابيع القليلة الماضية. ويبدو أكيداً أن الملك الجديد سيسهّل إجراءات اعتماد الخطّة، لئلّا يتوافق المزاج الشعبي المتعكّر مع لحظة انتقال السلطة إليه، كشخصية لا تتمتّع بقبول عريض كانت تحوزه معظمَ الوقت والدتُه الملِكة الراحلة.