وبتوقُّف المصدر الرئيسيّ المتبقّي لصادرات الغاز الروسي نحو أوروبا، تتحقَّق أسوأ كوابيس الشعوب الأوروبية عن شتاءات قاسية مقبلة، ستترافق مع تعاظم غير مسبوق لأزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، وركود اقتصادي حادّ قد تبدو معه فترة الكساد العظيم في 1929، مجرّد نزهة. وعلى رغم محاولة المسؤولين الأوروبيين الظهور متماسكين أمام قرار «غازبروم» وقْف الإمدادات، قال المفوض الاقتصادي، باولو جنتيلوني، إن «الاتحاد الأوروبي يتوقّع من روسيا احترام عقود الطاقة الحالية، لكنه مستعدّ لمواجهة التحدّي إنْ هي فشلت في ذلك». ووفق ما جاء في تغريدة للناطق باسم المفوضية الأوروبية، إريك مامر، فإن «إعلان غازبروم إغلاق نورد ستريم 1 مرّة أخرى، بذريعة واهية هو تأكيد آخر على عدم موثوقيتها كمورّد»، معتبراً أن موسكو «تسخر منّا لأنّها تفضّل إحراق الغاز بدلاً من احترام عقودها معنا». لكن الرئيس التنفيذي لشركة «شل» العالمية، بن فان بيوردن، حذّر من أن «نقص الغاز في أوروبا سيستمرّ لعدّة سنوات على الأقلّ»، فيما يَتوقّع الخبراء فترات صعبة ومؤلمة بالفعل بداية هذا الشتاء.
بتوقُّف المصدر الرئيسيّ المتبقّي لصادرات الغاز الروسي نحو أوروبا، تتحقَّق أسوأ كوابيس الشعوب الأوروبية
وفي وقت ما قبل الأزمة الأوكرانية، كانت حصّة موسكو من مجموع السوق الأوروبية للغاز لا تقلّ عن النصف، فيما تورّد هذه السلعة بأسعار زهيدة سمحت للاقتصادات الصناعية على البرّ الأوروبي بالتعافي، ومنحت سكّان القارة الأساس لحياة مستقرّة. لكنّ كل ذلك بات مهدَّداً، بعدما اختارت الحكومات الأوروبية الخضوع للضغوط الأميركية والانخراط في حرب اقتصادية شاملة ضدّ روسيا، كجزءٍ من الصراع الدائر بين واشنطن وموسكو في أوكرانيا. وفرضت دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا ستّ حزمات من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وصادرت أموالها، وأغلقت منابرها الإعلامية، فيما أغدقت الأموال على نظام كييف وغذّته بالعتاد العسكري والتدريب والمعلومات الاستخبارية.
على أن هذه العقوبات أتت بآثار عكسيّة مباشرة وغير مباشرة على شعوب القارة، وتسبّبت الاضطرابات في إمدادات الطاقة (غازاً ونفطاً وفحماً) في مضاعفة قيمة فواتير الغاز والمحروقات والتدفئة والكهرباء على نحوٍ لا يمكن معه للعديد من الصناعات الأساسيّة أن تستمرّ من دون تدخّل من الحكومات، وهو إن حصل سيرفع من مستويات التضخّم وقد يودي بقيمة اليورو والجنيه الاسترليني إلى التدنّي لمستويات قياسيّة أمام الدولار الأميركي. ومن شأن تعطُّل بعض الصناعات الأساسية المعتمِدة بكثافة على الغاز لتشغيل معاملها - مثل الورق والزجاج والكيميائيات - أن تشلّ صناعات أخرى مثل المواد الغذائيّة والورق الصحي وإنتاج السماد اللازم للزراعة. كما يهدِّد ارتفاع قيمة فواتير الطاقة بموجة عريضة من إغلاق المطاعم والمقاهي والبارات والمحالّ التجاريّة الصغيرة، ما سيدفع ملايين العمّال إلى البطالة، وأُسرهم إلى التشرّد. وفي بريطانيا مثلاً، فإن مطعماً صغيراً كان يدفع ثلاثة آلاف جنيه استرليني شهريّاً فاتورة الكهرباء، سيضطر مع شهر تشرين الأوّل المقبل، إلى دفع 25 ألفاً، فيما ترشّح الفاتورة للوصول - في ظلّ المعطيات الحالية - إلى 40 ألفاً مع منتصف العام المقبل، وهو ما سيحكم بالإعدام على عشرات الآلاف من مصالح الأعمال الصغيرة.
ولا تمتلك أوروبا حلولاً سريعة للعيش من دون الغاز الروسي، على الرغم من أنها بدأت منذ ما قبل الأزمة الأوكرانية في استيراد المزيد من الغاز الطبيعي المُسال عبر السفن، من دول مثل الولايات المتحدة وقطر وأوستراليا. وقد تضاعفت واردات الغاز الطبيعي المُسال تلك أربع مرّات تقريباً بين عامَي 2000 و2020، ويجري العمل بكثافة على تطوير بنية تحتيّة أوسع تشمل 13 محطّة جديدة لتخزين الغاز الطبيعي المُسال في جميع أنحاء القارة، بالإضافة إلى 29 محطّة موجودة بالفعل. لكن ذلك لن يكون كافياً لتغطية العجز بالسرعة اللازمة لتعويض توقُّف الإمدادات الروسية، كما سيعقّد التمدُّد في تجهيزات الغاز المُسال خطط القارة للانتقال إلى مصادر الطاقة البديلة، وسيعمّق من إدمانها على الوقود الأحفوريّ، فضلاً عن الزيادة الهائلة المتوقّعة في الأسعار، ما يُبقي سبيلا وحيداً لمواجهة الواقع إنْ أرادت أوروبا الاستمرار بوصفها شريكةً في الحرب الأميركية على روسيا: الحدّ من الطلب على الغاز والكهرباء.
ولا يجب أن تلوم الشعوب الأوروبيّة أحداً على هذه الأوقات الكالحة، سوى حكوماتها، إذ إن خطوة موسكو الأخيرة جاءت كردّ فعل على مبادرة وزراء مالية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان، بالإعلان عن خطّتهم لفرض سقف لسعر شراء النفط الروسي، حيث سيحتاج المستوردون الذين يسعون إلى الحصول على تغطية تأمينية وخدمات شحن من شركات مقرّها في «مجموعة الدول السبع» والاتحاد الأوروبي - ودول أخرى قد تنضمّ طوعاً إلى الخطّة مثل أوستراليا وكوريا الجنوبية - الى الالتزام بسقف سعري تحدّده هذه الدّول معاً. وكانت دول «مجموعة السبع» قد خفّضت بشكل ملموس وارداتها من النفط الروسي، لكن الارتفاع المطّرد في الأسعار تسبّب بزيادة العوائد إلى الخزينة الروسية من حجم صادرات أقلّ. ونُقل عن ناظم الزّهاوي، وزير الخزانة البريطاني، قوله إن «القرار جاء في أعقاب اجتماع عُقد في وقت سابق من هذا الأسبوع في واشنطن مع وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين»، مشيراً إلى تحرُّك الحلفاء الجماعي «للحدّ من قدرة بوتين على تمويل حربه من صادرات النفط من خلال حظر الخدمات، مثل التأمين وتوفير التمويل للسفن التي تحمل النفط الروسي فوق سقف السعر المتَّفق عليه». وأضاف في تصريح صحافي: «نحن متّحدون ضدّ هذا العدوان (الهمجي)، وسنفعل كل ما في وسعنا لدعم أوكرانيا وهي تقاتل من أجل السيادة والديموقراطية والحريّة». من جانبها، قالت يلين إن «هذا الإجراء الذي سيُنفَّذ في الأسابيع المقبلة سيمثّل ضربة كبيرة للمالية الروسية، وسيعيق قدرة موسكو على خوض حربها غير المبرّرة في أوكرانيا».
من جهتهم، سخر مواطنون أوروبيون على مواقع التواصل الاجتماعي من سياسات حكوماتهم بعد توقُّف إمدادات الغاز الروسي، وتناقل كثيرون تغريدات تذهب إلى ما معناه «يريدوننا أن نتجمّد لأجل عيون زيلينسكي (الرئيس الأوكراني)». وبدت تلك كإرهاصات لتحوّلٍ في مزاج الشعوب الأوروبية التي التزمت، على مدى الأشهر الستة الماضية دعم مواقف حكوماتها، لكنّها مع ذلك لا تزال بعيدة - حتى الآن على الأقلّ - عن التأثير الفعلي على الاندفاعة لتنفيذ رغبات واشنطن.