لندن | سيحسم 150 ألفاً من أعضاء حزب «المحافظين» الحاكم في بريطانيا - وهو حزب يميني كلاسيكي يمثّل الأثرياء وكبار الإقطاعيين – مصير البلاد، أقلّه حتى موعد الانتخابات العامّة العادية المقبلة (كانون الثاني 2025)، وذلك عندما يختارون الإثنين المقبل (5 أيلول) رئيساً لحزبهم، يتولّى عُرفاً منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة - أعلى مراتب السلطة التنفيذية في النظام البريطاني -، خلَفاً للرئيس بوريس جونسون الذي أُجبر على الاستقالة بعد تمرّد داخل حكومته في تموز الماضي. ويشكّل هؤلاء، لو أقدموا جميعاً على التصويت، أقلّ من 0.32% من مجموع الناخبين المسجَّلين في بريطانيا (حوالي 47 مليوناً)، لكنهم وحدهم يمتلكون الآن القدرة على اختيار الرئيس الجديد بفضل الأغلبيّة المُريحة التي يتمتّع بها الحزب في مجلس العموم (النواب) منذ الانتخابات العامّة الأخيرة في عام 2019.وبعد عدّة جولات من التصفيات، استُبعد فيها عدد مِمّن تقدّموا بالترشّح لتولّي المنصب من خلال تصويت نوّاب «المحافظين» في البرلمان، ستنتخب قاعدة الحزب مباشرة الآن، واحدةً من شخصيتَين بقيتا في السباق. وتبدو ليز تروس، وزيرة خارجية حكومة جونسون، المرشّح الأوفر حظّاً (وفق أحدث استطلاعات الرأي) من بينهما لتسلُّم مفاتيح «10 دواننيغ ستريت» (مقرّ الرئاسة في لندن)، فيما المرشّح الآخر، ريشي سوناك، وزير الخزانة السابق لا يزال مع ذلك الأكثر شعبيّة خارج الحزب، ولا سيّما في دوائر المال والأعمال في لندن. وتنافَس تروس وسوناك لاستقطاب الأصوات في حملات رئاسية مملّة، عبر سلسلة من المناظرات التلفزيونية، كما اللقاءات المباشرة بالناخبين في الدوائر التي يهيمن عليها «المحافظون» تاريخياً - وهي بمجملها مناطق تتّسم بالثراء النسبي وغلَبة الأكثرية البيضاء عليها -.
واضطرّ المرشحان المفتقران إلى الكاريزما الشخصية أو الأفكار السياسية الخلّاقة، إلى تغيير مواقفهما عدّة مرّات حول كمّ كبير من الملفّات الاستراتيجية التي تنتظر الحسم، ناهيك عن أفضل السبل لإدارة عاصفة الأزمات التي تُمسك بخِناق البلاد، وتدْفع بها إلى حافّة صراع طبقي مفتوح. لكن الجليّ أن سوناك يبقى الأكثر قدرة على إقناع دوائر المال والأعمال، بما فيها بنك إنكلترا المركزي، بكونه الأقلّ سوءاً في هذه المرحلة الأصعب من تاريخ بريطانيا المعاصر؛ وذلك بحُكم تخصّصه المهني، وخبرته كوزير للخزانة، وتصريحاته المتحفّظة بشأن إدارة مرحلة الركود. أمّا تروس فأرادت أن تلعب دور مارغريت تاتشر جديدة، من دون أن تمتلك أيّاً من أدوات الرئيسة الراحلة التي كانت أدارت التحوُّل نحو الاقتصاد النيوليبرالي خلال فترة عصيبة أخرى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. ولعلّ فرصة تروس للفوز بالمنصب مردّها حصراً إلى أنها إنكليزية بيضاء، فيما سوناك بريطاني من أصول هنديّة، وهو أمر لا يتم التداول به علناً، لكنه قد يكون العامل الحاسم في خيارات أغلبية الـ150 ألفاً من ناخبي «المحافظين» - وأكثريتهم من الذكور ذوي البشرة البيضاء -.
وبغضّ النظر عن شخص الرئيس العتيد الذي سيُعرف بعد أيّام قليلة، فلا أحد متفائل بنقلة نوعية في السياسات، أو بالخروج عن الإطار العام الذي اتّبعته الحكومات اليمينية المتعاقبة التي حكمت البلاد بعد تاتشر - بما فيها تلك التي شكّلها حزب «العمل» أيضاً -، ويقضي بتبنّي نهج نيوليبرالي يخدم مصالح رأس المال على حساب مؤسّسات الدولة والقطاع العام، والتموضع في سوق تقسيم العمل الدولي وفق الإرادة الأميركية. لا بل يُخشى من أن يستغلّ دهاقنة النُّخبة الحاكمة، الظروف الاقتصاديّة الضاغطة لاتّخاذ إجراءات أشدّ ضراوة في اتجاه تحرير الأسواق، وربّما إنهاء وجود القطاع العام في الهيئة الصحّية القومية، معقل الفقراء الأخير في هذه البلاد. وسيتعيّن على الرئيس الجديد تشكيل حكومة في وقت قياسي، بالنظر إلى فترة القيلولة التي طالت لشهرَين في ظلّ حكومة تصريف الأعمال الشبَحيّة الطابع، ما راكم على طاولته جملة من الملفّات الاستراتيجية والعاجلة التي تنتظر الحسم.
لا أحد متفائل بنقلة نوعية في السياسات، أو بالخروج عن الإطار العام الذي اتّبعته الحكومات المتعاقبة


ويأتي الاقتصاد وأزمة ارتفاع تكاليف المعيشة على رأس هذه الملفّات، إذ تُعاني المملكة أسوأ تضخُّم منذ الحرب العالمية الثانية، وبما يفوق كلّ الدول المجاورة، فيما من المتوقّع أن تَغرق في مرحلة ركود اقتصادي تستمرّ لعامَين على الأقلّ، وفق تقديرات بنك إنكلترا المركزي. وتريد تروس أن تقضي على التضخّم من خلال إدخال تخفيضات ضريبية تُعادل أكثر من 30 مليار جنيه استرليني سنوياً، وسحبِ صلاحياتٍ من تفويض البنك المركزي، فيما يعتقد سوناك أن ذلك سوف يعمّق من حالة الركود، محذراً من أن المسّ باستقلال البنك المركزي بشأن تحديد أسعار الفائدة سيكون «خطأ» يسمح للمضاربين باستهداف أُسس الاقتصاد البريطاني، داعياً إلى ما سمّاها «العودة إلى القيم الاقتصادية التقليدية للمحافظين».
الملفّ الآخر العاجل، هو معالجة آثار الإدارة السيئة لاتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، ولا سيّما في ما يتعلّق بمشروع قانون بروتوكول إيرلندا الشمالية، والذي من شأنه في حال اعتماده، مخالفة الاتفاق المبرم مع بروكسل، وإشعال حرب تجارية مع الشريك الاقتصادي الأهمّ للمملكة. وتعهّدت تروس، في حال انتخابها، بإلغاء جميع التشريعات المستمَدّة من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية عام 2023، إذا تَبيّن أنها تعيق النموّ الاقتصادي للمملكة المتحدة، بينما لا يخفي سوناك مخاوفه من الانعكاسات السلبيّة للتورّط في مِثل هذه الحرب ضد الأوروبيين، وفي هذا الوقت بالذات.
وترتبط بهذا الملفّ أيضاً قضايا الأقاليم الخاضعة لحُكم لندن المركزي، والتي قد تلتهب قريباً، كما في إيرلندا الشمالية حيث حالة من الشلل السياسي، أو في أسكتلندا الساعية لإجراء استفتاء شعبي على الاستقلال. وليس هناك أيّ ود بين تروس ودعاة «إيرلندا موحّدة» في بلفاست؛ أو نيكولا ستيرجن، الوزيرة الأولى في أسكتلندا، والتي يقود حزبها (القومي الأسكتلندي) الحملة للاستقلال عن لندن والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. أمّا سوناك فيريد تفعيل سياسة اشتباك إيجابي مع الأقاليم الغاضبة، متعهّداً بفعل «أيّ شيء وكلّ شيء» للحفاظ على تماسك الاتحاد.
ويظلّ ملفّ الهجرة حاضراً أبداً، ولا سيّما بعد فشل القضاء البريطاني في منع الحكومة من استخدام منهجيّة إعادة ترحيل اللاجئين إلى رواندا، حيث يواجهون خطر المعاملة السيّئة والتعذيب وربّما الموت. وتقول تروس إنها تريد بناء شراكات أخرى على نسق البرامج مع رواندا، وزيادة عديد القوات التي تراقب حدود بريطانيا، وتضييق الخناق على عصابات المهرّبين، فيما يريد سوناك خطّة متكاملة لإدارة مسائل اللجوء بالتنسيق مع البرلمان. وعلى رغم اتّفاق المرشّحَين على ضرورة التزام بريطانيا بتصفير صافي انبعاثات الكربون بحلول عام 2050، إلّا أن كليهما يفتقد إلى رؤية واضحة لكيفية تحقيق ذلك. وتُضاف إلى ما تَقدّم مسائل داخلية أخرى تَردّد الرئيس المستقيل في حسمها دائماً، ومنها ما يتعلّق بإصلاح التعليم بمختلف مراحله بما فيه الجامعي، وإعادة تنظيم القطاع الصحّي، كما أجندات تعزيز النمو المتوازن في المناطق خارج العاصمة المتورّمة. وهذه وغيرها تحتاج إلى برامج عمل مكثّف لتعديل التشريعات وتوفير استثمارات مليارية في البنية التحتية المتهالكة.
إذن، رئيس وزراء جديد في بريطانيا منذ الإثنين القادم، ومن ثمّ حكومة جديدة، لكن لا أحد هنا متفائل لا بشخصية الرئيس ولا بما قد تأتي به هذه الحكومة، التي غالباً ما ستَدخل التاريخ كمتعهِّدة شراء وقت لتمديد هيمنة المحافظين على السلطة حتى انتخابات 2025.