بسرعةٍ قياسية، تمكّنت حركة «طالبان» من استعادة زمام المبادرة، ومعها السيطرة على السلطة التي أُسقطت منها إبّان الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001. عشرون عاماً بالتمام، كانت الفترة الفاصلة بين مغادرتها الحُكم مكرهةً، والعودة إليه «منتصرة»، فتقدَّم مقاتلوها للسيطرة على جميع الولايات، في غضون 12 يوماً، ودخلوا العاصمة كابول من دون مقاومة، فيما كانت الولايات المتحدة تُتمّم انسحابها المتهافت. وبين تجربتَي الحُكم الأولى والثانية، لم تتغيّر الآليات استناداً إلى الوعود التي قطعتها الحركة - وإنْ اتّسم خطابها المُحدَّث بلهجة «تصالحيّة» لم تعهدها من قَبل -، فشكَّلت حكومةً جُلُّها من قياداتها البشتونية، ومن دون مراعاة التعدُّدية الإثنية والعرقية في أفغانستان، فيما ارتكز أساس الحُكم على ما يَصدر من مكتب زعيمها، الملّا هيبة الله آخوند زاده، المقيم في ولاية قندهار، في ظلّ غياب دستور يحدِّد القواعد الأساسية لشكل الدولة، ونظام الحُكم، وشكل الحكومة... وبخلاف حكومتها الأولى التي حظيت باعتراف ثلاث دول، هي: باكستان والسعودية والإمارات، لا تزال «طالبان»، بعد سنة، تنتظر اعترافاً بحُكمها، وهو ما تُبدي كثير من الدول - حتى تلك المناهضة للولايات المتحدة - تحفُّظاً، على الأقلّ رسميّاً، إزاءه، على رغم قرار 16 دولة - مثلاً - إعادة فتح سفارات لها في كابول، وهو هامش تستفيد منه «طالبان» لتوسيع نطاق نشاطها الديبلوماسي، علّها تكسر المراوحة القائمة، وتتمكّن من انتشال بلدٍ يئنّ تحت وطأة ضغوط هائلة.
تجاوُز حافة الخطر
في حزيران الماضي، أفاد مجلس الأمن الدولي بأن الاقتصاد الأفغاني تقلَّص بنسبة تتراوح بين 30% و40%، منذ عودة «طالبان» إلى السلطة، وخلص تقييم أجرته الهيئة الرسمية التي تُشرف على جهود «إعادة الإعمار» (مموَّلة من قِبَل الولايات المتحدة)، إلى أن الظروف الاقتصادية لا تزال «رهيبة»، وذلك بفعل تعليق معظم المساعدات الدولية، وقرار المجتمع الدولي الانسحاب من جميع المشاريع التنموية، وتجميد ما قيمته تسعة مليارات دولار من الأصول المملوكة للدولة الأفغانية ومواطنيها، وهو ما خلّف عواقب اقتصادية وخيمة على البلاد. وعلى رغم سعيها إلى التعويض عمّا تقدَّم، من خلال زيادة عائدات الضرائب (المهمّة الرئيسة الوحيدة التي تمكّنت «طالبان» من إدارتها في المجال الاقتصادي)، فضلاً عن زيادة صادرات الفحم للاستفادة من ارتفاع الأسعار عالمياً، أظهرت موازنة الربع الأول من العام الجاري، أن الحكومة جمعت ما يقرب من 400 مليون دولار من الإيرادات المحلية بين شهرَي أيلول وكانون الأول من العام الماضي. ونتيجة الانهيار الاقتصادي الذي تشهده أفغانستان، تضاعَف عدد الذين يعانون من مستويات حادّة من الجوع، لتتصدَّر أفغانستان المركز الأول عالمياً. ومع إدراكها لنطاق الأزمة، اكتشفت «طالبان» مدى ضآلة ما يمكنها فعله لتغيير المسار النهائي للاقتصاد، أو حتى لتوفير الدعم اللازم للشعب الأفغاني، من دون الاعتماد على المساعدات الخارجية.
وفق أرقام الأمم المتحدة، يعاني 19 مليون أفغاني من «انعدام الأمن الغذائي»، ويعيش حوالى 35 مليوناً في حالة فقر، و6.6 مليون شخص مصنّفون عند «مستوى الطوارئ»، أي على بُعد خطوة واحدة من الجوع. وبحسب المنسّق الأممي للشؤون الإنسانية في أفغانستان، رامز الأكبروف، فإن الوضع الاقتصادي في البلاد تدهور بشكل كبير مقارنةً بما كان عليه قبل انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها. وحذر الأكبروف من أنه «ما لم يُقدِّم المانحون 2.6 مليار دولار (وصل 1.8 مليار من مجموع 4.4 مليار دولار طلبتها الأمم المتحدة) في القريب العاجل، ستواجه البلاد كارثة خالصة» خلال الشتاء المقبل.

الحاجة إلى المشاركة
لم يَدُم طويلاً مفعول وعود حركة «طالبان» بتشكيل حكومة جامعة لأطياف الشعب الأفغاني وأعراقه، إذ كشفت، بعد شهرين من عودتها إلى السلطة، عن حكومةٍ «مؤقّتة» تُكرِّم عناصر الحرس القديم مِن الذين أسهموا في تأسيس الحركة، وأدوا دوراً رئيساً في محاربة الاحتلال الأميركي على مدى 20 عاماً. ولَمّا لاقت التشكيلة الجديدة اعتراضات وانتقادات على مستوى الداخل والخارج، سارعت «طالبان» على لسان زعيمها إلى إعلان التزامها «المواثيق الدولية وضمان أمن الديبلوماسيين والسفارات... واحترام حقوق الإنسان والأقليات وفق ضوابط الشريعة الإسلامية». وعلى رغم إصرارها على إضفاء صفة «المؤقتة» على حكومة الملّا محمد حسن أخوند، المستشار السياسي السابق لمؤسّس الحركة الملّا محمد عمر، إلّا أن «طالبان» لم تُقدِم على أيّ خطوة لتشكيل حكومة جامعة أكثر ديمومة، فيما تبدو بعيدة كلّ البعد عن صياغة دستور جديد للبلاد، وإنْ كان تمّ تعيين لجنة استكشافية قبل أشهر، لهذا الغرض.
يعاني 19 مليون أفغاني من «انعدام الأمن الغذائي»، ويعيش حوالى 35 مليوناً في حالة فقر


خلال الأشهر الستّة الأولى من حُكمها، بدا كما لو أن مجلس الوزراء سيشكّل سياسات الحوكمة، لكن الوزراء تعرّضوا لضغوط من قِبَل الأمير، تبلورت في الـ23 من آذار الماضي، عندما رفض آخوند زاده عودة الفتيات الموعودة إلى المدرسة الثانوية. ومنذ ذلك الحين، كَثُر الحديث عن «مراكز القوة المتنافسة» بين كابول وقندهار. وأصبح واضحاً، خلال الأشهر اللاحقة، أن «طالبان» ليست حركة سياسية متجانسة، وإن كانت التيارات المختلفة لا تزال ملتزمة بالتوصل إلى قرارات من خلال الإجماع. وبدأت التصدُّعات في الظهور، كما يعتقد سعد محسني في مقالة له في مجلة «فورين أفيرز» بعنوان «هل يمكن احتواء طالبان»، في ظلّ تصميم «الجناح الأكبر قليلاً والأكثر محافظةً في الحركة، على تطبيق عقيدة طالبان التي تعود إلى منتصف التسعينيات، كلمةً بكلمة». لكن قادةً مثل الملّا عبد الغني برادر، نائب رئيس الوزراء وأحد الأعضاء المؤسِّسين للحركة، إلى جانب آخرين أصغر سنّاً، بمَن فيهم وزير الداخلية بالوكالة سراج حقاني، والملّا يعقوب مجاهد، وزير الدفاع بالإنابة وابن مؤسِّس الحركة، يختلفان مع هذا النهج؛ إذ يدرك التيار «الأكثر اعتدالاً» داخل الحركة، أن «البقاء لا يعتمد على الاعتراف الدولي والمشاركة فحسب، وإنما أيضاً على الدعم الداخلي (...) لأن إهمال مصالح الأقليات الأخرى وسكان المناطق الحضرية في البلاد، لن يؤدي إلا إلى إضعاف الحركة مع مضي الوقت».
وفي حين لا يمكن التكهُّن بمآل هذه «الخلافات»، يرى محسني أنه «بالنظر إلى الوحدة غير العادية داخل الحركة ومرونتها، فإن صعود البراغماتيين على المحافظين سيحدث - على الأرجح - من خلال التطوّر وليس الانقلاب».

بحثاً عن الشرعية
لم تَحُز «طالبان»، حتى الآن، اعتراف أيّ بلدٍ بحُكمها. مع هذا، يمكن القول إنها أصبحت أقلّ عزلة بكثير ممّا كانت عليه في فترة حكمها الأولى. ففي آذار، مثلاً، دعا وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، إلى الاعتراف الدولي بالإمارة الإسلامية، بينما اعتبر نظيره الروسي، سيرغي لافروف، أنه يجب منْحُها مقعداً في الأمم المتحدة. في الإطار نفسه، بدا نشاط السفارات جديراً بالملاحظة، بعدما أعادت 16 دولة فتح سفاراتها في كابول (الصين، والاتحاد الأوروبي، والهند، وإندونيسيا، وإيران، واليابان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، والنرويج، وباكستان، وقطر، والسعودية، وتركيا، وتركمانستان، والإمارات، وأوزبكستان).
استناداً إلى ما سبق، يرجّح آرون زيلين، في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، أن تُواصل الحركة توسيع نشاطها الديبلوماسي، مع احتلال الصين مركز الصدارة في إطار بذْل هذا الجهد. ومع ذلك، يقول إن ملفّ الحركة في الغرب سيبقى محدوداً طالما استمرّت «أعمال التهديد»، أي إيواء قادة تنظيم «القاعدة»، وهو ما ظهر جلياً بعد اغتيال زعيم التنظيم أيمن الظواهري في العاصمة كابول. وينصح الكاتب المسؤولين الأميركيين بالنظر في دفْع الدول الأخرى إلى المماطلة في انخراطها مع الحركة، من أجل تقويض الشرعية التي اكتسبتها الأخيرة خلال العام الماضي. وبخلاف التوجّه المتقدّم، يدعو محسني الولايات المتحدة إلى التصالح مع الديناميكيات السياسية التي أدّت إلى عودة الحركة إلى الحُكم، لأنه سيكون من الخطأ افتراض أن أفغانستان «انهارت في الأسابيع التي سبقت انسحاب الأميركيين. لقد وُضعت أُسس الانهيار قبل أكثر من عقد من الزمن، بعد فترة وجيزة من تنصيب الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في عام 2004». كما أن واشنطن «تجاهلت بل شجّعت الفساد والسلوك العدواني من جانب السلطات الأفغانية التي كانت ترعاها. ووسط تدهور الوضع الأمني​​، اعتمدت على المداهمات الليلية، وعلى القصف العشوائي الذي أودى بحياة مدنيين. في بيئة كهذه، لم يكن من الصعب على طالبان الصعود مرة جديدة».



المرأة تحت حُكم الإمارة: حقوقٌ مهشّمة
مُتحدّثاً باسم حركة «طالبان»، قدَّم ذبيح الله مجاهد، الكثير من التعهدات، مِن مِثل أن الحركة ستسمح للمرأة بالعمل والدراسة: «ستكون المرأة نشطة للغاية، ولكن في إطار الإسلام». لكن كما في التسعينيات، حدَّ نظام «طالبان» من حريّة المرأة، فأُعيد فرْض سلسلة من القيود على النساء الأفغانيات، تمظهرت خصوصاً في آذار الماضي، مع إعادة فتح المدارس للعام الدراسي الجديد، وتراجُع الحركة عن وعْدها بالسماح للفتيات بالالتحاق بالثانوية، ملقيةً باللوم على نقْص المعلمات والحاجة إلى ترتيب الفصل في المرافق.
وبحسب «البنك الدولي»، تراجعت مشاركة المرأة في القوّة العاملة خلال العام الماضي، بعدما كانت قد ارتفعت من 15% إلى 22%، بين عامَي 1998 و2019. ومع فرض «طالبان» مزيداً من القيود على حركة النساء، تقلّصت نسبة الإناث العاملات في أفغانستان إلى 15% في عام 2021. وذكر تقرير لـ«منظمة العفو الدولية»، في تموز الماضي، أن الحركة «هشّمت حقوق النساء والأطفال» في أفغانستان، متحدّثاً عن الانتهاكات والتعذيب الذي تعرّضت له بعض النساء من اللواتي شاركْن في الاحتجاجات ضدّ القيود الجديدة المفروضة عليهنّ.
(الأخبار)