في معرض شرحه للأسباب التي تَدفعه إلى الاعتقاد بأن عودة الولايات المتحدة إلى الالتزام بالاتفاق النووي ستكون بمثابة «الكارثة الاستراتيجية»، يرى رئيس «الموساد»، دافيد برنياع، أن من بين تلك الأسباب خطر نظر بعض دول المنطقة إلى إيران باعتبارها «نموذجاً». ما يخشاه برنياع ليس تحوُّل النظام السياسي الإيراني إلى نموذج بالنسبة لأنظمة المنطقة الأخرى، نتيجة لاختلاف طبيعتها عنه أصلاً، بل تَوجُّهه الاستقلالي في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية. سبق لإيران أن كانت مصدر إلهام لحركات التحرُّر الوطني في العالم العربي وبقيّة بلدان الجنوب، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، عندما قرّرت حكومة محمد مصدق تأميم النفط الإيراني، مُدشّنةً عهد استعادة شعوب الجنوب سيطرتها على مواردها الطبيعية، لتوظيفها في تنمية بلادها. لعب هذا القرار مثلاً دوراً هامّاً في تشجيع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على تأميم قناة السويس، وفقاً لما أورده المفكّر الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه الصادر بالإنكليزية «قطع ذيل الأسد» عام 1986، والمُخصَّص لمعركة السويس. كشف القرار الإيراني آنذاك، من منظور شعوب الجنوب وأنظمتها وقواها الوطنية، التغيُّر في موازين القوى لغيْر صالح أطراف الاستعمار القديم، وفي المقدّمة منهم بريطانيا وفرنسا. الظروف الدولية الراهنة، على رغم اختلافها في نواحٍ عدة عن تلك السائدة في الحقبة المذكورة، تتضمّن أوجه تشابه بارزة معها، أهمّها تراجُع قدرة القوّة المهيمنة سابقاً، أي الولايات المتحدة، على السيطرة والتحكّم، واحتدام الصراع بينها وبين قوى صاعدة، أي الصين وروسيا، واتّساع هامش الاستقلالية المُتاح أمام بلدان الجنوب، وهو ما اتّضح مثلاً في مواقفها من الحرب الأوكرانية، ورفضها الإملاءات الأميركية بفرض عقوبات على روسيا. لقد صمدت إيران منذ انتصار ثورتها، وفي ظروف بالغة الصعوبة، في مقابل سياسات حرب أميركية متعدّدة الأشكال ضدّها، وهي على وشْك تسجيل انتصار بالنسبة لبرنامجها النووي والعقوبات المتّخذة بحقها ارتباطاً به، في سياق دولي تستعر فيه التناقضات بين القوى الكبرى. قد تنجح دول الإقليم في انتزاع مكاسب استراتيجية كبرى، سياسية واقتصادية، إنْ هي أحسنت الإفادة منه، وأوجدت في ما بينها صيغاً للتشاور والتعاون على قاعدة مصالحها المشتركة، وهي وازنة، وحالت دون المساعي الغربية والإسرائيلية لإثارة الانقسامات بينها، وهي الأداة التقليدية لإدامة الهيمنة.

الصراع الدولي وهامش الاستقلالية
من اللافت أن يقوم مسؤول أمني صهيوني بتحذير دول الغرب من مغبّة اتّباع دول في المنطقة «النموذج الإيراني». هو بكلّ تأكيد لا يقصد دولة كسوريا مثلاً، هي جزء لا يتجزّأ من محور المقاومة. مَن يشير إليها برنياع، من دون تسميتها، هي تلك الدول المصنَّفة «حليفة» للغرب، كمصر وتركيا وربّما بعض دول الخليج. هو يحاول أن يُذكّر قادة الغرب بالوظيفة الأصلية للكيان الصهيوني باعتباره قاعدته المتقدّمة في المنطقة، ومحطّة إنذاره المبكر حيال المخاطر التي تهدّد مصالحه. إسرائيل لم تَعُد اليوم مجرّد قاعدة عسكرية غربية، بل تحوّلت والحركة الصهيونية إلى جزء عضوي من منظومة الهيمنة الغربية. الخلاف حول وجاهة عودة واشنطن إلى الالتزام بالاتفاق النووي مع طهران، هو خلاف داخلي بين قوى هذه المنظومة ومكوّناتها، حيث يحاول جناحها المعارض أن يقنع ذلك المؤيّد بأن مِثل هذه العودة ستشجّع دول المنطقة الأخرى على المزيد من التمرّد على إرادة الولايات المتحدة، في سياقٍ تخوض فيه الأخيرة مواجهتَين استراتيجيتَين مصيريتَين مع روسيا والصين.
«المرونة التكتيكية» هي التي ميّزت سياسة واشنطن خلال عصرها الذهبي الإمبراطوري


لقد أظهر رفض هذه الدول الانصياع للطلبات الأميركية الخاصة بفرض عقوبات على روسيا، أو بزيادة معدّلات إنتاجها للنفط لتخفيض أسعاره والإضرار بالاقتصاد الروسي، وكذلك النموّ المطّرد لعلاقاتها مع موسكو وبكين، ميلاً متزايداً نحو الاستقلالية، يثير قلقاً متعاظماً في واشنطن، وفي الكيان الصهيوني. فقد أصبح من الواضح أيضاً، بعد قمّة جدة الأخيرة، أن مشروع إقامة حلف خليجي - صهيوني مَرعيٍّ أميركياً ضدّ إيران، هو مشروع لن يجد طريقه إلى التنفيذ. السياق الدولي الجديد، وسِمَته الرئيسة تراجع هيمنة أميركا وتأجُّج مجابهتها الاستراتيجية مع «مُنافسيها»، أتاح لإيران أن تنتزع تنازلات جدّية من واشنطن، وقد يحفّز بقيّة دول الإقليم على تصلُّب أكبر في مواجهة الإملاءات الأميركية التي لا تخدم مصالحها. هذا ما يحاول رئيس «الموساد» قوله للتحريض ضدّ العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.

«المكر» وإثارة الانقسامات لتأبيد الهيمنة
لم يكن مبدأ «فرّق تَسُد» معتمَداً من القوى الاستعمارية الغربية لتثبيت سيطرتها في داخل مستعمراتها فقط، بل هو بقي ساري المفعول في سياساتها على صعيد عالمي بعد حصول البلدان المستعمَرة وشبه المستعمَرة على استقلالها لمنعها من التفاهم في ما بينها، والتصدّي لمختلف أشكال الهيمنة. ارتكزت هذه السياسات على تناقضات موضوعية في المصالح بين أنظمة ما بعد الاستقلال، وعملت على تأجيجها لتتحوّل إلى تناقضات تناحرية. كان من الممكن للأنظمة المستهدَفة أن تجد آليات سلمية لحلّ تلك التناقضات، والتوصّل إلى توافقات وتفاهمات تسمح بقدْر من التعاون في ما بينها على قاعدة مصالحها المشتركة. غير أن التوجّهات الأميركية كانت دوماً العقبة الأساسية أمام مثل هذا الاحتمال. مقال جنان غانيش، وهو محرّر مشارك وكاتب عمود في «فايننشال تايمز»، صحيفة عالم الأعمال «العريقة والرصينة»، وعنوانه «معسكر الاستبداد سينقسم قبْل المعسكر الغربي»، يشكّل إقراراً نادر الصراحة بالحقيقة المُشار إليها، ودعوة للعودة إلى «المكر» للحفاظ على موقع الغرب في رأس هرم النظام الدولي.
يعتقد غانيش أن كراهية مَن يصفهم بـ«الأوتوقراطيين» للغرب، ويشمل بهذا التوصيف الأنظمة السياسية المتنوّعة في موسكو وبكين وطهران والرياض والقاهرة، «لا تفضي إلى تلاحم وثيق في ما بينهم. فما أنقذ القضية الليبرالية في القرن الـ20، إضافة إلى القوّة الأميركية، هو الضعف البنيوي للجبهة المعادية لها. على الغرب أن يسعى لضمان تكرار الأمر عينه في القرن الـ21. قد يتطلّب ذلك تعزيزاً للعلاقات مع أنظمة مارقة في بعض الأحيان، وتسعيراً للتوتّرات في صفوفهم. الأوتوقراطيات ليست أقلّ استعداداً للتنازع في ما بينها ممّا كانت عليه منذ 50 عاماً، عندما صافح نيكسون شو إن لاي، في أوْج الخلاف بين موسكو وبكين. السؤال اليوم هو ما إذا كان الغرب لا يزال لديه الدراية والمكر لاستغلال مثل هذه التناقضات».
«المرونة التكتيكية» هي التي ميّزت سياسة واشنطن خلال عصرها الذهبي الإمبراطوري، وفقاً لغانيش: «وكالة استخباراتها المركزية لم تتردّد في شراء نتائج انتخابات أو في تنظيم انقلابات عسكرية. إذا كانت الولايات المتحدة، في زمن أوْج قوتها، جاهزة للتكيّف أخلاقياً مع هذه الأساليب، فإلى أي مدى هي مستعدّة للذهاب اليوم؟». ستجهد الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، لمحاولة الحؤول دون تفاهمات إقليمية تُوفّر لبلدان المنطقة بمجملها التوصّل إلى تفاهمات في ما بينها تصبّ في مصلحتها جميعاً، والاستمرار في استغلال بعضها ضدّ بعضها الآخر. ربّما يكون استلهام النموذج الإيراني مجدّداً مفيداً لإفشال «المكر» وسياساته، والتعاون وفقاً لما يقتضيه أمن واستقرار وازدهار شعوب الإقليم.