قبل ثلاثة أسابيع، استقبلت الحشود التايوانية طائرة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، بالهتافات والألعاب النارية، والإضاءات الترحيبية على المباني العامة. مشهدٌ وصفه بعض الإعلام الغربي بأنه يليق بأرفع زيارة يقوم بها مسؤول أميركي إلى تايوان منذ عام 1997. وبصورةٍ استعراضية، ضاهت لحظة لَمْس نيل آرمسترونغ سطح القمر، نقلت وسائل الإعلام الأميركية لحظة وصول طائرة بيلوسي، مترقّبة ردّ الفعل الصيني. وفيما لم تتوقّف التنبؤات الأميركية عند حدود محاولة الصين اعتراض الطائرة أو إيقاف الزيارة بالقوّة، اكتفت بكين بـ«استغلال» الزيارة للتأكيد على وحدتها، والانطلاق في أكبر مناورات على الإطلاق يشهدها مضيق تايوان.إلّا أن السؤال الأهمّ هو ما الذي ستُقدم عليه الولايات المتحدة، حين تشعر باهتزاز هيمنتها؟ وهل يصبح تفعيل العقوبات وارداً؟ تعمل الأساطيل البحرية الأميركية السبعة، الموجودة في الممرّات البحرية مع شركائها، على تنفيذ سياسات الولايات المتحدة، ومطاردة سفن الدول المعاقَبة، مِن مِثل ناقلات النفط الإيرانية والفنزويلية، أو تلك التي تعمل بالوساطة وتعيد بيعه ونقله، ما يعني أن مهمّة القوات البحرية تحوّلت من حماية التجارة العالمية من القرصنة، إلى القرصنة على الدول الأعداء.
تاريخيّاً، تمّت رعاية أوّل حالة مسجّلة للقرصنة من قِبَل إنكلترا، في عام 1243، في عهد هنري الثالث. ومنذ ذلك الحين، ازدهرت هذه الممارسة القانونية وانتشرت، وظهرت في كل حروب أوروبا تقريباً، حيث تمّ توظيفها من قِبَل الإنكليز وكذلك الفرنسيين والهولنديين والإسبان. لكن بعض الدول، بخاصّة إنكلترا، وسّعت حدود «القرصنة» إلى ما هو أبعد ممّا كان يعتبر مقبولاً بشكل عام في حينه، حيث ساعدت في إعطائها مسمًّى وظيفياً وصبغة قانونية. ففي القرن السادس عشر، بعثت الملكة إليزابيث الأولى برسائل إلى هؤلاء القراصنة لمهاجمة عدوها اللدود، الإسبان، وتجريده من الثروات التي كان ينهبها من إمبراطوريتَي الأزتك والإنكا في أميركا الوسطى والجنوبية. ما تقدَّم، كان يمكن أن يتوافق مع قوانين القرصنة لو أن إنكلترا وإسبانيا كانتا في حالة حرب، لكن إليزابيث غالباً ما بعثت برسائلها هذه في فترات السلم. وبينما وصف الملك الإسباني، فيليب الثاني، القراصنة الإنكليز بـ«كلاب البحر»، نظر إليهم الإنكليز على أنهم أبطال.
من جهتهم، سعى المؤرّخون إلى الفصل بين القرصنة «الهمجية»، وتلك الحميدة. فتتبّعت المؤرّخة الشهيرة، باربرا توكمان، في كتابها «التحية الأولى»، تلك الازدواجية، لتنتهي إلى القول إن «القراصنة كانوا في الأساس سفناً تحمل ترخيصاً للسرقة (...) أي ما يعادل شرطياً يعطي إذناً للص». ولاحظ الكاتب، إريك جاي دولين، في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «المتمرّدون في البحر: القرصنة التفويضية في الثورة الأميركية» خلال رحلته لتتبّع تاريخ القرصنة، أنه «ليس من العجب أن كثيرين اعتبروا القرصنة وحاملي رسائل التفويض، مترادفَين. فخلال حرب التسع سنوات (1689-1697)، والمعروفة باسم حرب الملك ويليام في أميركا، التي شهدت احتشاد معظم أوروبا ضدّ الفرنسيين في المستعمرات البريطانية في أميركا الشمالية، ولا سيما نيويورك ورود آيلاند، أصدر الحكام خطابات رسائل التفويض للسفن المسلّحة تمنحهم الإذن بمهاجمة السفن الفرنسية. لكن الحكّام كانوا يعلمون جيداً أن هؤلاء القراصنة ليست لديهم نيّة لمحاربة الفرنسيين، وأنهم، بدلاً من ذلك، خطّطوا للإبحار إلى المحيط الهندي، ونهب السفن من الإمبراطورية المغولية التي تسافر بين الهند وموانئ البحر الأحمر في جدة، المحمّلة بالعملات المعدنية والمنسوجات وغيرها من السلع الهندية الشرقية الغريبة. لم يكن هؤلاء أكثر من قراصنة نهبوا سفن المغول، وأعادوا ثرواتهم إلى ديارهم. ولم يكن القراصنة هم الذين استفادوا فحسب، بل أيضاً الحكام أنفسهم الذين اتُّهموا بترخيص القرصنة وأخذوا جزءاً من عمليات النقل المربحة».
وبحسب جاي دولين، يتجاهل «التاريخ الرسمي البحري في كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة عن عمد دور القراصنة». فمنذ زمن، يتمّ التعامل مع القرصنة بصفتها موضوعاً ثانوياً. وكما لاحظ جون ليمان، وزير البحرية السابق في عهد الرئيس رونالد ريغان، فإنّه «منذ بداية الثورة الأميركية حتى نهاية حرب عام 1812، كانت الميزة البحرية الحقيقية لأميركا تكمن في القرصنة. لقد قيل إن معارك الثورة الأميركية خيضَتْ على الأرض، وحصل الاستقلال في البحر. لهذا، يجب شكر القراصنة الأميركيين على النجاح الهائل الذي حقّقوه». وفي 21 حزيران 1788، تم التصديق على الدستور الأميركي، وأعطت المادة الأولى منه، القسم 8، الكونغرس سلطة «إعلان الحرب، ومنح خطابات العلامة والانتقام، ووضع القواعد المتعلّقة بالاستيلاء على الأرض والمياه». وعندما بدأت حرب عام 1812، ودخلت الولايات المتحدة في صراع آخر مع بريطانيا، استند الأميركيون إلى هذا البند عندما تحوّلوا مرّة أخرى إلى القرصنة.
تحوّلت البحرية الأميركية من حماية التجارة العالمية من القرصنة، إلى القرصنة على الدول الأعداء


اليوم، تعود فكرة إضفاء الصبغة القانونية على القرصنة إلى الواجهة. ففي عام 2020، نشر المعهد البحري الأميركي مقالة مارك كانسيان، وهو كولونيل متقاعد في البحرية الأميركية، وبراندون شوارتز، بعنوان «أطلق العنان لقراصنة التفويض!»، وأُعيد نشرها مرّة أخرى عقّب زيارة بيلوسي إلى تايوان. في مقالتهما، أسّس الكاتبان لضرورة استحضار الماضي «المُشرّف» للقرصنة التفويضية (Privateers، والـ Privateering هو الاصطلاح الذي يشير إلى القرصنة بتوظيف من السلطات عبر كتاب تفويض كما حصل في التاريخ الأميركي، تمييزاً عن «القرصنة» التقليدية piracy)، لمواجهة القوى الاقتصادية الصينية. يقول الكاتبان إن «فكرة اللجوء إلى الشركات الخاصة تزعج خبراء الاستراتيجية البحرية، لأنها مقاربة للحرب لا تنسجم مع نمط خوضها المعتمد لدى البحرية الأميركية منذ عام 1815. ليست لدينا تجارب حديثة للجوء مماثل (إلى شركات خاصة)، وهناك مخاوف مشروعة بشأن المسوّغات القانونية وموقف الرأي العام العالمي، لكن من غير المنطقي أن يحاجج الاستراتيجيون الأميركيون لإثبات ضرورة التفكير خارج الصندوق من أجل مواجهة التحدّي الصيني المتزايد، ثم يعودون إلى توصيات تقليدية حول كيفية التعامل معه بسبب الإزعاج الذي يسبّبه لهم مثل هذا التفكير».
يُدرك كانسيان وشوارتز أنّ الصين لم تعُد تمتلك قوات بحرية متواضعة كما كانت عليه الحال في العقد الماضي؛ فمنذ عام 1980، تطوّرت إمكاناتها البحرية بشكل ضخم، وأصبحت تضمّ ما لا يقلّ عن 200 سفينة، مع دفاعات جوية متطوّرة، وصواريخ مضادة للسفن، وحتى حاملات طائرات، بينما انخفض الأسطول الأميركي إلى حوالى 295 سفينة. لذا، وفي حال اندلاع أيّ صراع، من المحتمل أن يتطلّب الأمر وجود الأسطول الأميركي بأكمله. ويشرح كانسيان وشوارتز أنّه «في مواجهة خصم يستطيع أن يُدافع عن مياهه الأصلية، فحتى مضاعفة الأسطول الأميركي سيكون قليلاً جداً». وفي حال اندلاع أيّ صراع عسكري مع بكين، ستبحث واشنطن عن طرق لتجفيف مصدر قوّة خصمها، عن طريق الإضرار بتجارته. وفي حين تُمثّل التجارة نحو 38% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، في مقابل 9% من الناتج الأميركي، يدرك الأميركيون صعوبة تحدّي الصين عسكرياً، لكنهم يراهنون على شيء آخر، وهو الإضرار بالاقتصاد والرهان على تحرّك الشارع الصيني ضدّ قيادته. وللإضرار بالاقتصاد الصيني، سيكون على الأميركيين مواجهة الأسطول التجاري الصيني العملاق.
في عام 2018، كان لدى الصين 2112 سفينة في أسطولها التجاري العالمي، وكان لدى هونغ كونغ 21857 سفينة أخرى، كما تمتلك الصين أسطولاً ضخماً للصيد لمسافات طويلة، يقدّر بنحو 2500 سفينة. في المقابل، تمتلك الولايات المتحدة 246 سفينة فقط في أسطولها التجاري. إلّا أنّه في حال صدام القوّتَين، قد يكون الأسطول التجاري الصيني الضخم هو نقطة الضعف. عملياً، أدركت الصين، بحكم الواقع، أنّ القوّة الاقتصادية تصبح قوّة حين تضمن حمايتها. لذلك، ومع اتّساع نفوذها الاقتصادي والديبلوماسي على مستوى العالم من خلال «مبادرة الحزام والطريق»، سارعت الصين إلى تطوير قدرتها العسكرية، فلم تكتفِ بتطوير القوّة العسكرية البحرية فحسب، بل عملت على إقامة علاقات مع الدول المُحيطة، واستثمرت في موانئ المياه العميقة في بورما وبنغلادش وباكستان وسريلانكا، لتكون للقوات البحرية الصينية في المستقبل قواعد صديقة للزيارة والإقامة فيها، وموانئ المحيط الهندي والبنغال ليست سوى جزء من خطّة أكبر لتأمين مستقبل الصين.
في مقالتهما، يتناول كانسيان وشوارتز، أيضاً، محاولات الصين التي ذكرناها لحماية أمنها وتجارتها، كمبرّر آخر مُلحّ لإطلاق شركات الأمن الخاصة (القراصنة الموظفون أو المفوضون). فالبحرية الأميركية لا يمكنها التحكّم في هذا الصراع حال نشوبه، الأمر الذي سيترك مجالاً لبقية المنافسين والمعادين للولايات المتحدة للتحرك بحريّة. ففي حين لا تستطيع البحرية تحمّل تكلفة انتظار مدمّرة بمليارات الدولارات لأسابيع مغادرة السفن الصينية خارج ريو دي جانيرو، يمكن للقراصنة المفوّضون الانتظار في مكان قريب. وبطبيعة الحال، لن يشكّل تجنيد الطواقم أو الحاجة إلى تسليح السفن عقبة رئيسة. فقراصنة العصر الحديث لا يحتاجون إلى أن يكونوا مدجّجين بالسلاح، لأنهم سيواجهون السفن التجارية المسلّحة أو غير المسلحة، أو أنهم سيختارون أهدافاً ضعيفة، أو سيتصرّفون بشكل تعاوني مع القراصنة الآخرين. وبما أنّ الهدف هو الاستيلاء على الهياكل والبضائع، فإنّ القراصنة لا يريدون إغراق السفينة، بل فقط إقناع الطاقم بالاستسلام، وكمْ عدد أطقم التجّار الذين يميلون إلى القتال بدلاً من الاستسلام وقضاء الحرب في اعتقال مُريح؟
قد يكون أوّل سؤال يأتي في ذهن البعض هو «أليست أعمال القرصنة محرّمة؟». والحقيقة هي أنها محرّمة دولياً إلّا في دولة واحدة هي الولايات المتحدة. فمنذ انتهاء سنوات الثورة الأميركية، وافقت واشنطن على الالتزام بشروط إعلان باريس والامتناع عن القرصنة، لكنها رفضت أن توقّع على أيّ التزام. قانونيّاً، يمكن الكونغرس توظيف القراصنة أو ما يُطلق عليها «وثيقة تفويض» تصدرها السلطات للمدنيين، ممّا يسمح لهم بالقبض على سفن العدو أو تدميرها في زمن الحرب. كما يمنح دستور الولايات المتحدة الكونغرس، في «المادة الأولى، القسم 8، البند 11»، سلطة مصادرة سفن العدو، وتُسمّى السفن والسلع التي يتم الاستيلاء عليها بـ«الجوائز». وللجوائز قانون ينصّ عليه دستور الولايات المتحدة (بعد هجمات 11 أيلول 2001، صوّت الكونغرس على قانون اقترحته إدارة جورج بوش يمنح وزارة الخارجية حقّ منْح وثائق التفويض من دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس. وقد حصلت شركة Pistris، في 2007، استناداً إلى القانون الجديد، على وثيقة تفويض، لمحاربة القرصنة البحرية في خليج عدن).
نجحت بيلوسي العنيدة في استفزاز بكين، وفي لفت انتباه العالم إلى بحر الصين الجنوبي بعدما استحوذت الحرب الروسية - الأوكرانية على جلّ الاهتمام الدولي. كما نجحت في إعادة إحياء الخطاب المعادي للصين، وتوطين مصطلحات مثل «حتمية الصدام» و«الصراع المستقبلي» في الصحافة الغربية، ما يضمن بقاء الجميع مشغولين في محاولة الإجابة عن سؤال ما يمكن أن يحدث إذا حدث الصدام بين الصين وأميركا، هل تُطلق واشنطن القراصنة؟