في مشوارها الطويل والغامض بحثاً عن بدائل للغاز الروسي، تطْرق أوروبا أبواب أفريقيا بإصرار، ضاربةً عرض الحائط بسياساتها وقوانينها السابقة المتعلّقة بتقييد جهود الدول الأفريقية لإنتاج الوقود الأحفوري، وحمْلها على التوجّه نحو الطاقة البديلة النظيفة. حلّت سياسة «الاستثناءات» معضلةَ وقْف تمويل مشاريع ذلك الوقود في القارّة السمراء، فالضرورات تبيح المحظورات. لكنّ الدول الأفريقية المنتِجة للطاقة لديها متطلّباتها التي قد تشكّل تحدّيات أمام طموح أوروبا إلى التزوّد بالغاز الأفريقي، بشكل سريع وكافٍ. وعلى رأس تلك التحدّيات يتربّع الاستهلاك المحلّي وكلفة الإنتاج والكمّيات المتوَقّعة، فضلاً عن ثُنائية السياسة والأمن
أعادت ألمانيا الزخم إلى عمل محطّات الفحم التي كان من المقرَّر إغلاقها سابقاً، فيما تعمل بعض الدول الأوروبية الأخرى على حرْق زيت الوقود لتوليد الكهرباء، وتنتشر مشاهد لمواطنين في غير بلد أوروبي يجمعون الحطب تحضيراً لموسم الشتاء المقبل. صار الحديث عن الطاقة النظيفة في القارّة العجوز من أنواع «الترف الفكري»، في ظلّ عودة ثابتة ومتسارعة لمصادر الطاقة الكثيفة الكربون أو «القذرة» في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، واصطفاف دول الاتحاد الأوروبي خلْف الموقف الأميركي منها. في خضمّ، رُصد اهتمام أوروبي بأفريقيا كإحدى الوجهات المحتمَلة لتعويض النقص الحاصل في مصادر الطاقة الروسية، وخصوصاً منها الغاز. اهتمامٌ ليس مستغرَباً؛ إذ تتوسّط القارّة الأفريقية قارّات العالم، وتطلّ على أهمّ الممرّات الملاحية والجُزر المحيطة في المحيطَين الأطلنطي والهندي، ويكتسب جزؤها الشمالي والشمالي الشرقي أهمّيته من السيطرة على حركة المواصلات العالمية المدنية والعسكرية بين قارّات آسيا وأوروبا وأفريقيا، فيما يكتسب الجزء الغربي والجنوب الغربي أهمّيته من الاتّصال بحركة الملاحة القادمة من الأميركيتَين والشرق الأقصى. وتلعب الميزة الجيوبولتيكية الأفريقية هذه دوراً محفّزاً للالتفاتة الأوروبية الأخيرة نحو القارّة، حيث سُجّل نشاط غير عادي لرئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، قبل استقالته، لتأمين صفقات غاز جديدة مع الجزائر، وأنغولا، ومـصر، والكونغو. وبالمِثل، بدأ المستشار الألماني، أولاف شولتز، رحلته الرسمية الأولى إلى أفريقيا في السنغال، في أيار الماضي، معلِناً عن خطط لملاحقة مشاريع الطاقة «بشكل مكثّف»، لتبدأ سريعاً محادثات بشأن استخراج الغاز وإنتاج الغاز الطبيعي المُسال.
وبصرف النظر عن النقاش الدائر في أفريقيا حول جدوى الاستثمار في الوقود الأحفوري، خصوصاً أن الاقتصادات الأفريقية التي تعتمد على صادراته، تعاني من معدّلات نمو أبطأ من تلك التي تتمتّع بها اقتصادات متنوّعة، تتصاعد في القارّة السمراء الانتقادات للضغوطات الأوروبية التي تتعرّض لها دول أفريقية من أجل دفْعها إلى استخدام احتياطياتها المالية المحدودة في تطوير صناعة استخراج هذا الوقود وتصديره إلى المستهلكين الأوروبيين. وتتركّز الجهود الأوروبية، في السياق المُشار إليه، على 4 دول أساسية - هي نيجيريا والجزائر وليبيا ومصر -، من المتوقّع أن تسدّ مجتمعة نحو 62.43 مليار متر مكعّب من حاجة أوروربا سنوياً (والبالغة، بحسب أرقام 2020، 503 مليارات متر مكعّب، استُورد منها ما نسبته 46% من روسيا، أي ما يعادل 155 مليار متر مكعّب، وفقاً لدراسة «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»). إلّا أن المعضلة تكمن في أن هذه الدول ليست كلّها جاهزة، سياسياً ولوجستياً، للبدء في ضخّ الغاز نحو الدول الأوروبية، وهي بحاجة إلى مدّة تُراوح بين 3 و5 سنوات كحدّ أدنى للقيام بذلك.
الدول الأفريقية ليست كلّها جاهزة، سياسياً ولوجستياً، للبدء في ضخّ الغاز نحو الدول الأوروبية


فالجزائر تنتج سنوياً 90 مليار متر مكعّب من الغاز الطبيعي، وتستهلك ما يقارب 50% من إنتاجها، وهو معدّل استهلاك مرتفع نسبياً. كما تُعدّ ثالث أكبر مصدّر للغاز إلى أوروبا بنسبة تصل إلى 11.6% من مجمل واردات القارّة. ويتمّ نقل هذه الكمّيات عبر ثلاثة خطوط رئيسة هي «ميدغاز» إلى إسبانيا القادر على نقل 10.7 مليارات متر مكعّب من الغاز سنوياً؛ و«ترانسميد» إلى إيطاليا عبر تونس وصقلية، ولديه القدرة على ضخّ 33.5 مليار متر مكعّب سنوياً؛ و«المغربي - الأوروبي» إلى إسبانيا والبرتغال مروراً بالمغرب، بقدرة 10.3 مليارات متر مكعّب سنوياً. لكنّ هذا الأخير توقَّف عمله في 31 تشرين الأول 2021 بعدما ساءت العلاقات بين الجزائر والمغرب، والتي يمثّل توتّرها تحدّياً كبيراً من المرجّح أن تتدخّل واشنطن نفسها لدى الرباط على خطّ معالجته، في سبيل إعادة العمل بـ«المغربي - الأوروبي». ومن المرجّح أن تضيف الجزائر نحو 10.3 مليارات متر مكعّب سنوياً إلى احتياجات أوروبا من الغاز، لكنّ المدّة اللازمة لتحقيق ذلك غير واضحة حتى الآن. ومن جهة ليبيا، فهي تعتمد خطّ أنابيب «GreenStream» البحري الذي يصلها بإيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسّط، وتمّ تطويره بحيث أصبحت سعته 11 مليار متر مكعّب سنوياً. لكنّ الصراع القائم هناك يجعله منقوص الفعّالية؛ إذ تتوقّف الإمدادات عَبره من فترة إلى أخرى، علماً أن المنتظَر أن تضيف ليبيا 6.13 مليارات متر مكعّب من الغاز إذا ما توافرت الظروف الملائمة.
أمّا نيجيريا، فتُعدّ مصدّراً رئيساً إلى أوروبا للغاز الطبيعي المسال، والذي يُعدّ أعلى كلفة من غاز الأنابيب، بسبب عمليات التسييل والشحن ومن ثمّ التغويز. وتنتج نيجيريا 41 مليار متر مكعّب سنوياً من الغاز الطبيعي، وهي تستهلك نصفه تقريباً وتصدّر النصف الآخر، فيما من المتوقّع أن يزيد استهلاكها في المستقبل. وفي عام 2021، بلغ إجمالي صادراتها من الغاز المسال 23.3 مليار متر مكعّب، وهو أقلّ بكثير من قدرتها التصديرية، في حين بلغت صادراتها منه إلى أوروبا تحديداً 12.63 مليار متر مكعّب في العام المذكور. وبالإضافة إلى ذلك، تمّ الاتفاق على مشروع خطّ أنابيب عبر الصحراء، ينقل الغاز النيجيري إلى أوروبا، بسعة 30 مليار متر مكعّب في السنة، لكن أُوقف العمل على المشروع القائم منذ عام 2009، عدّة مرات بسبب المشاكل الأمنية، فيما لا يوجد تاريخ محدّد لإنهائه. وبالنسبة إلى مصر، فهي تمتلك 2.1 تريليون متر مكعّب (TCM) من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكّدة (والتي تُعادل 1.6 مليار طنّ من الغاز المسال)، ما يجعلها في المرتبة 16 على مستوى العالم. وعانت منشأتا دمياط وإدكو المصريّتان الإغلاق لفترات طويلة وتحويل إنتاجهما لتلبية الطلب المحلّي المتزايد (158 مليون متر مكعّب يومياً)، والذي يُعدّ، إضافة إلى كلفة الإنتاج العالية، من بين التحدّيات التي تواجه مصر في طريقها إلى حجز مكان بين مصدّري الغاز في العالم، علماً أن أوروبا تأمل أن يعوّض الغاز المصري 16 مليار متر مكعّب من الغاز الروسي إذا ما توافرت الظروف المناسبة.
بالنتيجة، تبدو طريق أوروبا نحو قلْب أفريقيا وعرة. وبعد أن كان الاتحاد الأوروبي يضغط على الدول الأفريقية للتخلُّص من «الوقود القذر»، وأَوْقف تمويل مشاريع الوقود الأحفوري في الخارج، صار بعد الحرب الروسية على أوكرانيا يتحدّث عن «استثناءات» ستنطبق على الأرجح على المشاريع التي من شأنها أن تسمح بمزيد من شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. وقد علّق الرئيس النيجيري، محمدو بوهاري، في حديث إلى «بلومبيرغ» الشهر الماضي، على هذا الواقع بالقول: «نحن بحاجة إلى شراكة طويلة الأمد، وليس إلى تناقضات وخلافات في سياسة الطاقة الخضراء لبريطانيا والاتحاد الأوروبي».