يَنتظر الشعب الألماني الشتاء القادم موعوداً بأوقات عصيبة
وبينما استوعب الروس صدمة العقوبات بشكل كبير، وعوّضوا الكتلة الرئيسة لِما خسروه في السوق الأوروبي عبر توسيع الأسواق الأخرى - ولا سيّما الصين -، واستفادوا من تضاعُف الأسعار لتعزيز ماليّتهم، فإن أوروبا التي أوقفت الآن استيراد الفحم من روسيا، وتريد أيضاً وقف النفط مع نهاية العام الحالي، تتّجه نحو أزمة حقيقية في ما يتعلّق بالغاز تحديداً. وعلى رغم أن العديد من الدول الأوروبية نجحت في إيجاد مصادر تزويد بديلة (الجزائر وقطر وغيرهما)، إلّا أن حجم المعروض في السوق لن يكون كافياً لتغطية كلّ العجز الذي قد يُحدثه إقدام موسكو على وقف الإمدادات أو حتى تقليصها، أقلّه في الشهور والسنوات القليلة المقبلة، ما يضع الحكومات الأوروبية تحت تهديد شتاء قاسٍ بداية من العام الحالي. ألمانيا، قاطرة الصناعة الأوروبية، والتي قُدّمت للعالم على أنها نموذج الاقتصاد المزدهر، ستدفع في هذا المنعطف أكلافاً أكثر من غيرها، نظراً إلى موقعها الجغرافي الأبعد عن المورّدِين البدلاء - مقارنة مثلاً بإيطاليا وإسبانيا المتشاطئتَين مع الجزائر -، وسُتفقد أسعار الغاز المرتفعة والتكاليف الإضافية في نقله - حال تَوفّر الإمدادات - صناعتها كلّ ميزة سمحت لها بالتفوّق إلى وقت قريب. وسيؤدّي ذلك إلى ركود ومناخ اقتصادي قاتم نتيجة إفلاس العديد من الشركات أو نقل عمليات الإنتاج نحو دول أخرى، وفي الحالَين إلى تسريح عشرات الآلاف - أو حتى الملايين - من العمال، وتراجُع القدرة الشرائية للغالبية من المواطنين واستمرار التضخّم.
وبحسب توقّعات البنك التجاري الألماني (كومرتس بانك) الأسبوع الماضي، فإن التخفيضات الروسية في إمدادات الغاز الطبيعي يمكن أن تؤدّي إلى «ركود حادّ»، وربّما حتى أزمة اقتصادية واسعة تفوق «تلك التي حدثت بعد الأزمة المالية في عام 2009»، و«سيكون أمر تقنين استعمال الغاز حتمياً»، وذلك على رغم الجهود التي تبذلها الحكومة للتخلُّص من اعتماد ألمانيا التاريخي على الوقود الأحفوري الروسي. وتقول مصادر حكومية في برلين إن واردات الفحم الروسي أُوقفت بالفعل، ومن المقرَّر أيضاً أن تُستبدل بالنفط الروسي إمدادات من مصادر أخرى بحلول فصل الشتاء، لكن أكثر التوقُّعات تفاؤلاً تعترف باستحالة الاستغناء عن الغاز الروسي قبل نهاية عام 2024 على الأقلّ. وتُحاول بعض الشركات الألمانية التكيّف من خلال البحث عن مصادر طاقة بديلة، لكن الفجوة أكبر من أن تُغطَّى خلال نافذة الوقت المتوفّر قبل دخول العجز. وأعلن رؤساء البلديات أنهم سيطفئون أضواء المباني ليلاً، ويتوقّفون عن تدفئة حمّامات السباحة العامّة. كما تَعِد الحكومة بمنح بدلات طاقة للشركات المتضرّرة بشدّة من ارتفاع أسعار الغاز، فيما من المحتمَل أن يتخلّى الائتلاف الحاكم عن وعوده الانتخابية، ويمدّد عمر آخر ثلاث محطّات نووية في ألمانيا. ومع ذلك، فإن تلك الجهود جميعها قد تخفّف من تأثيرات الأزمة، لكنها لن تمنعها من الانفجار في لحظة ما قريبة.
ويبدو أن استراتيجية حرب الغاز الهادئة التي تتّبعها موسكو قد بدأت تؤتي أكلها رويداً رويداً، إذ على رغم أن أحدث استطلاعات الرأي في ألمانيا ما زالت تُظهر دعماً شعبياً قوياً لكييف، ولجهود الحكومة للتخلُّص من الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي، إلّا أن ذلك الدعم تضاءل مقارنة بمستوياته إبّان بداية الحرب الروسية، إذ بدأت تَظهر تباينات في المواقف بين الألمان في الأقاليم الشرقية (التي كانت تشكّل جمهورية ألمانيا الشرقية) والغربية. وحذّر رؤساء بلديات كبرى ومشرّعون من الشرق من «توتّرات اجتماعية هائلة»، فيما دعا رئيس ولاية سكسونيا الساسة في برلين إلى الدّفع باتجاه «تجميد» الحرب في أوكرانيا، ونبّههم نظيره البافاري، كذلك، إلى ضرورة «التفكير في مصالح شعبنا». كما ثمّة احتكاكات لا تخفى بين أطراف الائتلاف الحكومي الثلاثة حول المسألة نفسها. لكن التنازل للكرملين من خلال دفْع أوكرانيا إلى قبول هدنة، ورفع العقوبات عن روسيا، ووضع «نورد ستريم 2» موضع التشغيل، سيكون بمثابة انتحار سياسي لشولز الذي يَحكم من خلال أغلبية هشّة مع شركاء متطرّفين في مُساوقتهم رغبات واشنطن، وسيجد نفسه خارج المستشاريّة فور تبنّيه لأيّ من تلك السياسات، ما سيُغرق ألمانيا في أزمة سياسية خانقة بالنظر إلى تشتُّت التأييد الشعبي للأحزاب القائمة. في المقابل، فإن استمراره في المنصب التنفيذي الأهمّ لهيكلية السلطة سيكون بمثابة أخذ للبلاد من عنقها نحو ركود وكارثة اقتصادييْن محتملَين. وبين المرَّين، يَنتظر الشعب الألماني الشتاء القادم موعوداً بأوقات عصيبة.