سنشهد انقسامات جدّية بين دول الاتحاد وفي داخلها
ما مدى استفحال أزمة الطاقة بالنسبة إلى البلدان الأوروبية؟ ومَن هو البلد الأكثر تضرُّراً بينها؟
- تختلف مستويات التبعية لروسيا في ميدان الطاقة ارتباطاً بمنتَجاتها. التبعية كبيرة جدّاً في ميدان الغاز الطبيعي، الذي مثّلت وارداته من روسيا في الفترة الممتدّة بين عامي 2017 و2019، نسبة 56,9% من مجمل واردات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها ضعيفة في مجال الغاز المسيل (7,2%)، ومتوسّطة في مجال النفط (30,3%)، والفحم (36,2%)، والخث (32,4%)، وفحم الكوك (34,1%)، وفقاً لمكتب «أوروستات» في المفوضية الأوروبية. بالنسبة إلى الغاز الطبيعي، فإن البديل المُتاح منه حالياً هو الغاز المسيل، الذي وصلت قيمة وارداته بين عامي 2017 و2019 إلى 11,3 مليار يورو، بينما كانت قيمة الغاز الروسي المستورَد عبر الأنابيب في الفترة نفسها 26,4 مليار يورو. وبما أن ثمن المتر المكعّب من الغاز المسيل أغلى بحوالي الـ30% من غاز الأنابيب، فإن الاتحاد الأوروبي يكون قد استورد عبر الأنابيب في الفترة المُشار إليها 3 أضعاف كمّية الغاز المسيل التي اشتراها، إذا استثنينا منها الكمّيات المستورَدة أيضاً من روسيا. إضافة إلى ذلك، ونظراً إلى العدد المحدود للمنشآت المخصَّصة لإعادة تغويز الغاز المسال، أي تحويله مجدَّداً إلى غاز طبيعي، وهو 20 منشأة في كلّ أوروبا، فإن استبدال الغاز المسال بذلك الطبيعي الروسي يتطلّب مضاعفة عدد هذه المنشآت بـ3 مرّات على الأقلّ. من المستحيل القيام بهذا على المدى القصير، لأن مِثل هذه العملية تتطلّب ما بين الـ3 والـ5 سنوات. عطفاً على ما تَقدّم، سيصبح من الضروري أيضاً بناء أسطول من ناقلات الغاز الباهظة الثمن. باختصار، هناك تبعية أوروبية لروسيا في ميدان الغاز.

قد تكون التبعية أقلّ في ميدان النفط، لكن هذا الأخير ينقسم إلى نفط خام ثقيل ونفط خام خفيف. الأوّل هامّ بالنسبة إلى الصناعات البتروكيماوية، والثاني يُستخدم لإنتاج المحروقات. الدول القادرة على زيادة إنتاجها، أي بلدان الخليج وفنزويلا، تنتج نفطاً ثقيلاً، ومن غير المحسوم أنها موافقة على الزيادة. أخيراً، لدينا الفحم وفحم الكوك؛ يعتقد البعض بسهولة إيجاد مصادر بديلة لهما غير روسيا، غير أن مناجم الفحم في أستراليا والولايات المتحدة وبولونيا تعمل بكامل طاقتها. تصل نسبة الفحم المستورَد من الولايات المتحدة إلى 38% من كمية الفحم المستورَدة من روسيا، ونسبة ذلك المستورَد من أستراليا إلى 30%. يعني هذا أن زيادة ضخمة في معدّلات الإنتاج ستكون مطلوبة، وأيضاً، زيادة عدد الناقلات. باختصار، استبدال منتِج للفحم كروسيا يتطلّب وقتاً، نحو سنتَين، وسيكون أمراً مكلفاً.
من الضروري التذكير بأن منتَجات الطاقة هي مواد أوّلية صناعية. يصحّ هذا الأمر على الغاز الطبيعي الذي تحتاج إليه الصناعات الكيميائية، وعلى النفط وعلى الفحم، الحيوي بالنسبة إلى صناعة الفولاذ. إذا انطلقنا من كمّية منتَجات الطاقة المستورَدة، كمؤشّر، ومن الوزن الاقتصادي لكلّ بلد، يتّضح أن ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا هي البلدان الأوروبية الأكثر تضرُّراً. تحوّلت أزمة الطاقة التي سبّبتها العقوبات المفروضة من قِبَل الاتحاد الأوروبي على روسيا، والتي حدت بالأخيرة إلى استخدام صادراتها من الطاقة كأداة ضغط، الى أزمة عالمية. هي لا تؤثّر فقط على إنتاج الكهرباء، بل كذلك على الصناعات، خاصة الصناعة الكيميائية وصناعة الصلب.

ما هي توقُّعاتكم حيال احتمالات تطوُّر هذه الأزمة، خاصة خلال الأشهر المقبلة ومع اقتراب الشتاء؟ وما هي التداعيات التي قد تنجم عنها؟ هل سنشهد مثلاً احتداماً للتناقضات ما بين دول الاتحاد الأوروبي وتصاعُداً للاحتجاجات الاجتماعية في داخل هذه الدول؟
- من المتوقّع أن تستمرّ الأوضاع في التدهور بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وأن تتراجع صادرات الطاقة الروسية إلى بلدانه باطّراد. هل هذا الوضع قابل للاحتمال؟ التوقّعات كارثية بالنسبة إلى بلدان كألمانيا وإيطاليا. والأمر لا يتعلّق بالغاز وحده، بل بالنفط ومشتقّاته، كالديزل مثلاً، الأساسي بالنسبة إلى النقل والتدفئة. وحتى لو تقاسمت دول الاتحاد مخزونها الاحتياطي من الطاقة، فإن المطلوب معرفته قبل حلول الشتاء هو من سيتحمّل أعباء انخفاض عرض الطاقة: المستهلِكون أم المصانع والشركات. إذا قرّرنا دعم الصناعة، فإن التقنين سيثير تذمّر المواطنين ويتسبّب باحتجاجات اجتماعية. وإذا منحنا الأولوية لمساعدة المستهلِكين، فإن بعض قطاعات الصناعة ستتوقّف عن العمل، أو تتراجع قدراتها الإنتاجية بشكل كبير. المفاعيل الاقتصادية لتراجُع معدّلات الإنتاج، وأبرزها انخفاض الأجور، لن تتقبّلها شرائح واسعة من السكّان، خاصة في ظلّ التضخّم الراهن. تستطيع الدول مساعدة الفئات الأكثر فقراً، وهو ما ينصح به منذ الآن صندوق النقد الدولي. إذا أوقفت روسيا صادراتها من الطاقة، أو خفّضتها بشكل كبير، فإن ذلك سيفضي إلى تراجع استهلاك السكّان بنسبة 7%، وفقاً لدراسة أعدّها هذا الصندوق استناداً إلى معطيات شهر أيار الماضي، وهي كانت أقلّ سوءاً من تلك الراهنة.
من المتوقّع أن تستمرّ الأوضاع في التدهور بين روسيا والاتحاد الأوروبي


قد يقول البعض إن الشعوب الغربية قد واجهت في تاريخها تحدّيات أصعب من تلك الحالية. ينسى هؤلاء أنها كانت آنذاك في حالة حرب، وأن أيّ حكومة أوروبية اليوم لن تتحمّل مسؤولية القول إنها تخوض حرباً ضدّ روسيا. التعاطف الشكلي مع أوكرانيا لا يحجب علامات التعب التي بدأت تتجلّى في أوساط الرأي العام. في مثل هذا السياق، من غير المستبعد أن ترفض حكومات أوروبية تقاسم مخزونها الاحتياطي من الطاقة مع بلدان أوروبية أخرى، وأن تعتمد سياسة أنانية. بطبيعة الحال، فإن دولاً كألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والنمسا ستتأثّر سلباً من تداعي التضامن الأوروبي. المرحلة الثانية، التي بدأت بالنسبة إلى المجر، وربّما بالنسبة إلى ألمانيا مع زيارة غيرهارد شرودر لموسكو، هي قرار حكومات أوروبية التفاوض مباشرة أو بطريقة غير مباشرة مع روسيا لرفع العقوبات المفروضة عليها مقابل إلغاء الإجراءات الروسية المضادّة. إذا وصلنا إلى هذه المرحلة، قد يكون من الأفضل أن تقود مثل هذه المفاوضات مع روسيا مجموعة من الدول الأوروبية، أو حتى الاتحاد نفسه، إلى الحؤول دون تَفكّكه. العقوبات التي فرضها الاتحاد، وبعضها أكثر تشدُّداً من تلك الأميركية، لن تجدي نفعاً، لسبب بسيط: فعالية العقوبات الاقتصادية عبر التاريخ ضعيفة جدّاً.

هل هناك بديل جدّي على المديَين المتوسّط والبعيد للغاز الروسي؟
- على المدى الطويل، هناك بدائل للغاز الروسي، كاستيراد الغاز المسال من مختلف الدول المنتِجة له، والاعتماد الجزئي على الطاقة النووية في بعض القطاعات. العقبة الوحيدة التي ينبغي أخذها في الحسبان هي الكلفة. سعر المتر المكعّب من الغاز المسال أكثر ارتفاعاً بنسبة تُراوح ما بين 30 و50% من سعر غاز الأنابيب. إذا بقي اقتصاد بلدان الاتحاد معتمِداً على الغاز في الـ20 سنة القادمة، وهو أمر مرجَّح، واستبدلت هذه الأخيرة المسال بذلك الروسي، فهي ستواجه ارتفاعاً في الكلفة الإجمالية لا يقلّ عن 25%. وقْع هذا الارتفاع على القدرة التنافسية للصناعات الأوروبية سيكون سلبياً، وخاصة أننا سنشهد أيضاً ارتفاعاً موازياً لأسعار النفط ومشتقّاته. وستبيع روسيا النفط والغاز لدول صديقة كالصين والهند مع حسومات معتبَرة. المنطق الذي حَكم في الماضي اختيار الحكومات في ألمانيا وإيطاليا الاعتماد على الغاز الروسي، هو السعي للحصول على الطاقة بسعر منخفض لتعزيز القدرة التنافسية لاقتصاداتها على المستوى الدولي. لم يكن هذا الخيار خاطئاً، بل الخيار الخاطئ هو عدم نسج علاقات صداقة مستقرّة مع روسيا، ونزع الألغام التي تحول دون ذلك، أكانت تتعلّق بعلاقات الاتحاد بالجمهوريات السوفياتية السابقة، أو بتوسيع حلف الناتو.

اقتصادي فرنسي ومدير أبحاث في «معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية»