ثمّة ما يُثار منذ أمدٍ ليس ببعيد، حول ما يُعرف بـ«الذروة النفطية» (ذروة الطلب على النفط وليس الإمدادات)، وما إذا كان العالم بلغ هذا الحدّ، وبدأت مكانة هذه السلعة الاستراتيجية تتراجع. تعتمد الإجابة على ما تقدَّم، على ما تفرزه الأزمات الدولية الكبرى من تداعيات مباشرة على إنتاج النفط وتوزيعه، كما على التحوُّل الذي يُحكى عنه إلى الطاقة البديلة، أو ببساطة تقلُّص الحاجة إلى هذه السلعة، وهو ما لا يبدو واقعياً في الأجَلين القصير والمتوسّط. بهذا المعنى، لا أجوبة شافية لمعرفة متى يبلغ العالم ذروة الطلب، أو إن كان قد تجاوزها، وفق تقديرات سابقة لشركة «بريتش بتروليوم»، تقول إنه «جرى تجاوُز ذروة النفط في عام 2019، عند مستوى 100 مليون برميل يوميّاً، ولن يصل العالم إلى هذا المستوى مرّة أخرى بسبب التغيّرات الهيكلية الناجمة عن الأزمة الوبائية» (خفّض الإغلاق العالمي بمقدار الثلث الاستهلاك اليومي من الخام في عام 2020)، فيما تبدو «منظمة الدول المصدّرة للبترول»، «أوبك»، أكثر حذراً في توقّعاتها القائلة إن الطلب العالمي على الخام سيبلغ ذروته بحلول نهاية العقد المقبل.في عام 2020، أحدثت شركة «بريتش بتروليوم» صدمةً في أسواق الطاقة، بإعلانها أن العالم تجاوز بالفعل ذروة الطلب على النفط، وتوقّعت أن ينخفض الطلب على الخام بنسبة 10% في العقد الحالي، وبنسبة تصل إلى 50%، خلال العقدَين المقبلَين. ولاحظت الشركة أن الطلب على الطاقة لطالما ارتفع باطّراد مع ارتفاع النمو الاقتصادي العالمي. مع هذا، ربّما يكون لأزمة وباء «كورونا» والتغيّرات المناخية، دور في اختلال هذه القاعدة، جعل الشركة تخطئ في تقديراتها، بعدما أصبح واضحاً أن الوباء لم يُؤدِّ إلى انخفاض كبير في الطلب. على أيّ حال، عدَّلت «بريتش بتروليوم» توقّعاتها للنمو الاقتصادي العالمي، في إصدارها الخاص بتوقّعات الطاقة لعام 2022، وقالت إن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينكمش بنسبة 1.5% بحلول عام 2025، عن مستويات عام 2019 (كانت توقّعت سابقاً أن ينكمش بنسبة 2.5%). وبرّرت نظرتها القاتمة تلك، بأنها أُعدّت قبل الحرب الروسية على أوكرانيا التي دفعت بأسعار الطاقة إلى الارتفاع. وفي تقريرها، قدَّمت ثلاثة سيناريوات، تتوقّع جميعها تجاوز الطلب على النفط مستويات ما قبل الوباء، بحلول منتصف العقد الحالي، قبل أن يبدأ في الانحدار، وإنْ بدرجات متفاوتة.
تغيَّر الكثير منذ بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وإنْ كان الطلب على الخام لا يزال على حاله، إلّا أن مشكلة الإمدادات هي التي تفاقمت في ظلّ ضغط العقوبات الغربية على روسيا، وقرار موسكو الردّ باللجوء إلى سلاحَي النفط والغاز. وإذ «نجحت» دول الاتحاد الأوروبي في تمرير قانون الحظر الجزئي على النفط الروسي ضمن الحزمة السادسة من العقوبات الاقتصادية، إلّا أن العقوبات استثنت الخامات البترولية المصدَّرة عبر الأنابيب، أي الغاز، نظراً إلى ضيق الخيارات الأوروبية إنْ لم يكن انعدامها في الوقت الراهن. من هنا، يتمثَّل السؤال في كيفيّة إنهاء الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية. وتجدر الإشارة إلى أن أُولَى الدول التي تصدّرت مشهد حظر النفط الروسي كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، واللتين لا تعتمدان بدرجة كبيرة على واردات الطاقة الروسية. لكن مثل هذا الحظر، وفق ما يرى اقتصاديون، لا يمكن أن ينجح من دون مشاركة الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيصعّب على روسيا العثور سريعاً على أسواق بديلة (استورد الاتحاد الأوروبي نحو 40% من إمداداته من الغاز الطبيعي، وأكثر من ربع احتياجاته من النفط، ونحو نصف احتياجاته من الفحم من روسيا، عام 2019). في هذا الوقت، أفرجت المفوضية الأوروبية عن خطّة لخفض وارداتها من الغاز الروسي بنحو الثلثَين، بحلول نهاية العام، ترمي إلى الاستعاضة عن 101.5 مليار متر مكعّب من الغاز الروسي، وتشير إلى أن تعزيز الواردات إلى أوروبا من البلدان الأخرى قد ينجح في اقتطاع نسبة تبلغ تقريباً 60% من إمدادات القارة من ذلك الغاز. ويُحتمل أن تتأتَّى نسبة أخرى قوامها 33% من الاتجاه إلى مصادر جديدة لتوليد الطاقة المتجدّدة، واتّباع تدابير للمحافظة على الطاقة. في هذا الصدد، يقول الخبير الاقتصادي في مؤسسة «برويجيل»، سيمون تاجليابيترا، وفق ما ينقل عنه جيف توليفسون في تقرير نُشر أخيراً في مجلّة «نايتشر» العلمية: «نحن بحاجة إلى مجموعة خيارات لاستبدال الغاز الروسي، وضمان تأمين الطاقة على المدى القصير»، مِن مِثل تكثيف واردات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وزيادة استخدام محطّات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم، لضمان استمرار توافر الطاقة لإضاءة المنازل وتدفئتها خلال الشتاء. بعد ذلك، «علينا حقّاً مضاعفة جهود التحوُّل إلى الطاقة النظيفة»!
هناك دعوة إلى زيادة استخدام محطّات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم


وبلغت أزمة الطاقة أحدَّ صورها في ألمانيا التي تعتمد على روسيا في الحصول على ما يقرب من نصف احتياجها من الغاز الطبيعي والفحم، وأكثر من ثلث احتياجها من النفط. ويتمثّل التحدّي المباشر الذي يواجهه هذا البلد في تقليل اعتماده على الغاز الطبيعي في قطاع توليد الطاقة، وهي مشكلة تزداد تعقيداً بسبب تراجعه عن إنتاج الطاقة النووية. ووفق تقرير أصدرته أكاديمية «ليوبولدينا» الوطنية الألمانية للعلوم، فإن ألمانيا قد تصمد الشتاء المقبل من دون الاعتماد على الطاقة الروسية، ولكن لن يتسنَّى لها ذلك إلّا ببذل جهود مضنية للاستعاضة عن الغاز الروسي بالاستيراد، مع زيادة محطّات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم... من جهة أخرى، يرتقب العالم تكثيف شركات النفط والغاز الكبرى استثماراتها في إنتاج الوقود الأحفوري، على رغم تكرار الحديث عن الحاجة إلى إزالة الانبعاثات الكربونية. وفي هذا السياق، يبدى نيكوس تسافوس، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، تخوُّفه من احتمالية أن تُبطّئ الحرب في أوكرانيا من التحوّل إلى استخدام الطاقة النظيفة، وتزيد من انبعاثات غازات الدفيئة في أجزاء أخرى من العالم، حتى إنْ كان من المرجَّح أن تُعجِّل وتيرة تخلّي أوروبا عن الوقود الأحفوري. ويعلِّل ذلك قائلاً، إن «دول جنوب شرقي آسيا، على وجه الخصوص، قد تعود إلى استخدام الفحم إذا أحكمت أوروبا حصارها على السوق الدولية للغاز الطبيعي المُسال».
كيف تنتهي أزمة الطاقة؟ لا أجوبة شافية في هذا الخصوص، لكن هناك بعض الخروقات التي يمكن أن تحدِّ من آثارها، مِن مِثل حدوث اختراق ديبلوماسي ينهي الحرب في أوكرانيا ويسمح برفع العقوبات عن روسيا؛ إبرام اتفاق بين إيران والقوى الغربية؛ تباطؤ اقتصادي أعمق في الصين؛ اتفاق منتجي «أوبك+» على زيادة الإنتاج. وهناك تطوُّر آخر يمكن أن يخفّف من أزمة الطاقة: ركود اقتصادي عميق بما يكفي لإحداث انهيار في الطلب. لكن أحداً لا يستطيع الجزم في ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعاني ركوداً اقتصادياً، وإلى أيّ مدى سيتغلغل، وكم من الوقت سيدوم ويتعمّق؟ وليس معروفاً أيضاً ما إذا كان الركود في أميركا وأوروبا وروسيا سيؤدّي إلى تراجع الاقتصادات النامية الرئيسة الأخرى وكبار المستهلكين للنفط، مثل الصين والهند، على حدّ تعبير فاندانا هاري، مؤسِّسة مركز «فاندا إنسايتس» المعنيّ بأسواق الطاقة.