موسكو | انتقلت روسيا، بإقرارها عقيدة بحرية جديدة، إلى مستوى متقدّم من المواجهة مع الولايات المتحدة، متحدّيةً هيمنة الأخيرة في المحيطات، في سياق ما تقول إنه «تشكُّل جارٍ لعالم متعدّد الأقطاب». وإذ يَبرز في العقيدة المنقّحة، التي وقّعها فلاديمير بوتين بنفسه، تحديد الولايات المتحدة وحلفائها بمثابة «مصدر الخطر الرئيس على روسيا ومصالحها القومية»، فإن اللافت في الوثيقة، التي يسجّل لها الخبراء الروس، وضوحَها ودقّة أهدافها وقابليّتها للتَحقُّق كما يقدّرون، أنها أتاحت للبحرية الروسية استخدام القوّة العسكرية لتحقيق مصالح البلاد، عند استنفاد كلّ الوسائل الديبلوماسية والسياسية
فرضت التطوّرات الجيوسياسية المحيطة بروسيا نفسها على الفعاليات الاحتفالية بمناسبة «يوم الأسطول الحربي» الروسي. إذ لم تقتصر هذه الفعاليات على استعراض أحدث الأسلحة العسكرية الخاصة بالبحرية، أو على الرسائل السياسية والعسكرية التي وجّهها الرئيس فلاديمير بوتين بالمناسبة، بل تَمثّل الحدث الأهمّ في توقيع بوتين على مرسومَين حول إقرار العقيدة البحرية الروسية وميثاق الأسطول العسكري الروسي. وجرى تعديل العقيدة البحرية الجديدة، التي حلّت مكان تلك المعتمَدة في 17 حزيران 2015، وفقاً للتحدّيات الحالية والأوضاع الجيوسياسية الراهنة في العالم «من أجل ضمان تنفيذ السياسة البحرية الوطنية لروسيا»، بحسب المرسوم الأوّل. أمّا المرسوم الخاص بميثاق الأسطول العسكري، فأدرج تعديلات في مواثيق الخدمة الداخلية وخدمات الحماية والحراسة للقوات المسلّحة الروسية.
وعلى عكس القواعد المتّبعة، وقّع بوتين بنفسه المرسومَين، لا قائد البحرية أو وزير الدفاع، وهو ما اعتبره الأدميرال فياتشيسلاف بوبوف، القائد السابق للأسطول الشمالي (1999-2001)، حدثاً فريداً يزيد من أهمية البحرية في النظام الدفاعي للبلاد. وأوضح بوتين، في خطابه بالمناسبة، أن العقيدة الجديدة تحدّد المهام المطلوبة لضمان الأمن والمصالح الوطنية لروسيا، مؤكّداً أنه سيتمّ توفير الحماية بشكل حازم و«بجميع الوسائل المتاحة». وتتضمّن هذه العقيدة عدداً من التغييرات الرئيسة، لعلّ أبرزها توصيف الولايات المتحدة وحلفائها بـ«الخطر الرئيس» على روسيا، في حين كان تعزيز الإمكانات العسكرية لـ«حلف شمال الأطلسي» مصدر التهديد الخارجي في عقيدة 2015. كذلك، جرى تصنيف نهج الولايات المتحدة الساعية للهيمنة على المحيطات العالمية، بمثابة «تحدّ رئيسٍ» للأمن القومي لروسيا. ووفقاً للوثيقة، فإن التهديد الإضافي ينبع أيضاً من رغبة واشنطن وحلفائها في تقييد وصول موسكو إلى موارد المحيط العالمي واتّصالات النقل البحري الحيوية، فضلاً عن سعي أميركا لتحقيق تفوّق قواتها البحرية على قوات الدول الأخرى. كما ثمّة خطر متمثّل في تصاعُد الضغوط الاقتصادية والسياسية والإعلامية والعسكرية على روسيا من أجل تشويه سمعتها وتقليل فعّالية أنشطتها البحرية. ومن بين المخاطر البارزة، عدم كفاية نقاط الأساس للسفن الروسية في الخارج، والمخصَّصة لتموين السفن التابعة للقوات البحرية الروسية، إضافة إلى احتمال قيام عدد من الدول بفرض قيود على شركات بناء السفن الروسية في مجالَي صناعة الدفاع وشركات النفط والغاز، بما يتضمّن نقل التقنيات الحديثة وإمدادات المعدّات وجذب التمويل طويل الأجل.
وفق الخبراء العسكريين الروس، فإن العقيدة الجديدة تحدّد أهدافاً طموحة لموسكو لتطوير الأسطول البحري


وتحدّد العقيدة الجديدة مناطق مهمّة تؤثّر على اقتصاد البلاد وأمنها القومي والاستراتيجي، من بينها مضيق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، بما يشمل اتّصالات النقل البحري العالمية التي تمتدّ على طول السواحل الآسيوية والأفريقية. وهي تنصّ، أيضاً، على تعزيز مصالح روسيا في القطب الشمالي، الذي يحوز أهمية خاصة. والأهمّ من كلّ ذلك، هو السماح للبحرية الروسية باستخدام القوّة العسكرية في المناطق الحيوية في المحيطات، عند استنفاد كلّ الوسائل الدبلوماسية والسياسية. وتؤكّد الوثيقة رغبة موسكو في تطوير ممرّ بحري «آمن وقائم على التنافسية» من أوروبا إلى آسيا، يُعرَف بـ«الممرّ الشمالي الشرقي»، عبر ساحل المنطقة القطبية الشمالية، وضمان تشغيله طوال العام. كما تؤكد أنه «لا يمكن لروسيا أن تكون موجودة اليوم من دون أسطول قوي... وستدافع عن مصالحها في محيطات العالم بحزم وتصميم». كذلك، تنصّ النسخة الأحدث من العقيدة البحرية على تطوير مرافق الإنتاج لبناء سفن حاملة للطائرات.
ووفق الخبراء العسكريين الروس، فإن العقيدة الجديدة تحدّد أهدافاً طموحة لموسكو لتطوير الأسطول البحري. وفي هذا السياق، يشير الخبير العسكري، فيكتور ليتوفكين، إلى أن روسيا جدّدت في الوثيقة موقفها السلبي الحادّ بشأن توسّع «الناتو»، معتبراً، في تصريح إلى صحيفة «إزفستيا»، أنه في الوضع الجيوسياسي الحالي، ستُركّز روسيا «بشكل أساسي على التعاون مع شركاء من منطقة آسيا والمحيط الهادئ - الصين والهند»، مضيفاً إن «ما تضمّنته الوثيقة حول تخطيط روسيا لتطوير مجمّع لبناء السفن في الشرق الأقصى، بما في ذلك إنشاء سفن ذات حمولة كبيرة، سيساعد في تطوير القطب الشمالي». بدوره، يصف الباحث في «معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية»، إيليا كرامنيك، النسخة الجديدة من العقيدة البحرية بأنها «وثيقة جيّدة التفصيل تهدف إلى تحسين الوضع في البحرية الروسية»، و«تعكس الواقع الجيوسياسي اليوم»، عادّاً من بين «مزاياها المهمّة وضوحها وهيكلها والأهداف المرسومة لها». ويَلفت إلى أن الوثيقة «تحدّد أهدافاً واضحة وقابلة للتحقُّق. وإذا لم يتمّ الوفاء بها، فسيتحمّل أشخاص محدَّدون تماماً مسؤولية ذلك».
أمّا الخبير العسكري، فاسيلي دانديكين، فيرى أن «العقيدة البحرية هي ردّنا على التهديدات التي تشكّلها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في جميع الاتجاهات، بما في ذلك القطب الشمالي والبحر الأبيض المتوسط وبحر البلطيق ومنطقة كالينينغراد بشكل منفصل». ويشير دانديكين، في تصريح إلى صحيفة «فزغلياد»، إلى أن «الوثيقة الجديدة تنصّ على أنه إذا لزم الأمر، يمكن لروسيا إنشاء قواعدها في دول أخرى من العالم، حيث يكون ذلك مناسباً، لحماية الاتّصالات والمدنيين ومصالحنا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية». ويضيف إن «العقيدة البحرية تحدّد أيضاً مجالات الاهتمام القومي، وخاصة في الكوريل والقطب الشمالي»، متابعاً أن «وزارة الدفاع الروسية اقترحت إلزام السفن العسكرية والحكومية الأجنبية بدخول مياه طريق بحر الشمال بإذن دبلوماسي فقط»، مستنتجاً أنه «بناءً على ذلك، سيتمّ وضع حدّ للمحاولات الطموحة للولايات المتحدة لإثارة المتاعب لنا في هذا الاتجاه». أمّا بشأن ما أعلنه الرئيس الروسي من تزويد البحرية الروسية بصواريخ «تسيكرون» الفرط صوتية، فيَعتبر دانديكين أن «ذلك سيزيد من قوة البحرية الروسية وفعاليّتها»، مشدّداً على أنه «يجب على الزملاء الغربيين أن يفهموا أن عصر عالم متعدّد الأقطاب قادم، وأن سياسة روسيا في البحار والمحيطات ستكون مختلفة في هذا العالم».