مفهوم القيم الغربية فقدَ صلاحيته ويجب الكفّ عن استخدامه
لا يمتلك ديدييه بيون تقييماً إيجابياً لزيارة جو بايدن للمنطقة. هو يعتقد أن الرئيس الأميركي فشل في تحقيق هدفَيه الرئيسَين منها، وهما إعادة صياغة شراكات بلاده الجيوسياسية في المنطقة، وانتزاع التزامات من دول الخليج بزيادة إنتاج النفط للحدّ من ارتفاع أسعاره. فشلٌ إنّما يجلّي، بحسب بيون، تراجُع قدرة الولايات المتحدة على التحكُّم بقواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وإن كانت لا تزال لاعباً يُحسَب حسابه من قِبَل حلفائها. وإذا كانت هيمنتها تشهد انحداراً بالفعل، إلّا أن أميركا وبقيّة القوى الغربية لم تَقُل كلمتها الأخيرة بعد، وفق ما يؤكد بيون لـ«الأخبار»

ما هو تقييمكم لزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن، للسعودية؟
تقييمي الإجمالي سلبي تماماً. كان للزيارة هدفان بالنسبة إلى إدارة بايدن: الأوّل هو إعادة صياغة شراكاتها الجيوسياسية في المنطقة انطلاقاً من «هاجسها الإيراني»، الذي ازداد قوّة نتيجة لتعثُّر المفاوضات حول برنامج طهران النووي وتضاؤل الأمل بإمكانية التوصّل إلى اتّفاق معها حوله. حاول الرئيس الأميركي إعادة الحرارة إلى علاقاته الفاترة مع شركائه التقليديين. صدَر أيضاً في تل أبيب إعلان أميركي - إسرائيلي مشترك حول إنشاء شراكة أمنية إقليمية، من دون أن يَتبع ذلك أيّ التزام رسمي في جدة. وعلى رغم أن المحادثات كانت ودّية، لم يقدّم أيّ من المشاركين العرب فيها، خاصة من دول الخليج، أيّ تعهّد واضح، في سياق تَعمل فيه هذه الأخيرة على تطبيع علاقاتها الديبلوماسية مع إيران. من هذه الزاوية بالذات، أنا مقتنع بأن الدول الخليجية لا ترغب في التورُّط في المشاريع الأميركية. هذا لا يعني أنّنا نشهد قطيعة بينها وبين الولايات المتحدة، لكنّ العلاقات معها باتت أكثر تعقيداً، وهي لم تَعُد قادرة على فرض ما تشاء.
جانب آخر شديد الأهمّية، هو ذلك المتعلّق بالأبعاد النفطية. العقوبات التي فرضتها القوى الغربية ضدّ روسيا في ظلّ الحرب في أوكرانيا، زعزعت الاقتصاد الدولي، خاصة في ميدان الطاقة، وكانت لها تداعيات بالغة السلبية على أسعارها في بلدان الغرب وفي الولايات المتحدة. ومع اقتراب الانتخابات النصفية في الكونغرس، وتكاثُر التوقعات غير الإيجابية حيال نتائجها بالنسبة إلى الحزب الديموقراطي، سعى بايدن من خلال زيارة الخليج، إلى إقناع دوله بزيادة إنتاج النفط للحدّ من ارتفاع أسعاره، بعد أن قدّم عدّة طلبات بهذا المعنى في المرحلة السابقة لم تلقَ تجاوباً من قِبَلها. وفي هذا المضمار أيضاً، فإن التزامات السعودية - القادرة فعلاً على زيادة إنتاجها والتأثير على حركة الأسعار ارتفاعاً أو هبوطاً - بقيت شديدة العمومية. فشِل بايدن في تحقيق الهدفَين الرئيسَين لزيارته. لقد أصبح من الصعب على الولايات المتحدة التحكُّم بقواعد اللعبة الإقليمية في الشرق الأوسط. استطاعت ذلك خلال عقود خلَت، لكنّ هذا الزمن قد انقضى.

بين الولايات المتحدة والسعودية تحالف استراتيجي تاريخي، ما هي العوامل التي تفسّر التباعُد المتنامي بينهما، والاستقلالية المتزايدة للسياسة السعودية عن تلك الأميركية؟
زمَن الإملاءات الغربية على بقيّة بلدان العالم قد ولّى. التباعُد بين الرياض وواشنطن هو نتاج لمسار طويل بدأ على الأقلّ منذ عشر سنوات. عندما انفجرت الانتفاضات العربية في عام2011، وتخلّت إدارة باراك أوباما بسرعة عن النظام المصري، تبلورت قناعة لدى الممالك الخليجية بعدم جدوى الاعتماد الحصري على الحماية الأميركية، بعد نقاشات مستفيضة بين المسؤولين السعوديين والإماراتيين. عكست العديد من المقالات التي نُشرت في صحف خليجية في تلك الفترة، مِثل هذه القناعة. غير أن نقطة التحوُّل الفعلية في العلاقات السعودية - الأميركية كانت قضية جمال خاشقجي. هناك ميلٌ إلى الاستخفاف بتداعيات هذه القضية بالنسبة إلى الرأي العام الأميركي، وهي أعمق من تداعياتها على الرأي العام الأوروبي. هي تسبَّبت بصدمة حقيقية في أوساطه. وعلى الرغم من أن السياسة الدولية لا تَحكمها العواطف، فإن إنكار وقْع هذه القضية على العلاقات بين البلدَين هو تجاهل للوقائع. لقد دان بايدن بقوّة في تلك الفترة، عن قناعة أو لاعتبارات انتخابية، هذه الجريمة، وقال إنه لن يلتقي أبداً محمد بن سلمان، وإن السعودية أصبحت دولة مارقة. حرب اليمن ساهمت أيضاً في تدهور العلاقات البيْنية، مع قرار إدارة بايدن رفْع الحوثيين عن قائمة المنظّمات الإرهابية، والذي تلا غياب ردّ فعل أميركي على قصف الأخيرِين منشآت سعودية وإماراتية. عدّة عوامل أوصلت الأوضاع إلى ما هي عليه راهناً.
بموازاة ذلك، فإن دور روسيا والصين تَعزَّز كثيراً في هذه البلدان، مستفيداً من تناقضاتها مع واشنطن. نجحت الدولتان في نسج شراكات مع دول المنطقة، وتطوير الصلات مع قادتها، وتوقيع العديد من العقود الهامّة معها. لدى محمد بن سلمان مجموعة من المشاريع الضخمة في بلاده (رؤية 2030)، والصين شريك أساسي لأنها لا تأبه لطبيعة النظام السياسي في المملكة. تدلّ هذه المؤشّرات على أن السعوديين والإماراتيين يعتمدون مبدأ تعدُّد الشراكات في سياستهم الخارجية، وأن لديهم شكوكاً حقيقية في صدقيّة واشنطن. على الرغم من ذلك، ينبغي تجنُّب المقاربات الثنائية التبسيطية. تراجعت قوّة الولايات المتحدة مقارنةً بما كانت عليه في العقود الماضية، لكنها ما زالت لاعباً يُحسَب حسابه من قِبَل الدول الخليجية. أنا أتحدّث عن مسارات واتّجاهات مستقبلية تشي بنموّ تدريجي للدورَين الروسي والصيني، وتراجُع للنفوذ الأميركي. أرادت إدارة أوباما التخفيف من الالتزامات الأميركية في المنطقة، لكنّ هذا التوجُّه لم يَعُد سائداً حالياً. صنّاع القرار في واشنطن يدركون مركزية هذا الإقليم في التوازنات الجيوسياسية الدولية، وهم، بحُكم موقعهم كقوّة دولية أولى حتى الآن، لا يستطيعون الانسحاب منها ببساطة.

تشيرون إلى أن تحوُّل موازين القوى الدولية قد أتاح تنويعاً في الخيارات الاستراتيجية لشركاء الولايات المتحدة التقليديين، وتوسيعاً لهامش استقلاليتهم. ألا يُثبت هذا الأمر انحداراً متسارعاً للهيمنة الأميركية؟
أنا موافق على أنّنا نشهد انحداراً، لكنّني لا أعرف ما إذا كان متسارعاً، ولا أعتقد أن الولايات المتحدة وبقيّة القوى الغربية قد قالت كلمتها الأخيرة. من المؤكد أنّنا سنشهد في العقود القادمة صراعاً شرساً ومحتدماً بين واشنطن وبكين. هاجس بايدن الحقيقي هو الصين، وهناك صعوبة حقيقية، لديه ولدى القطاع الأعظم من النُّخبة الأميركية، في الاعتراف بأنها ستتفوّق عليهم. المنافسة الاقتصادية مستعِرة بين البلدَين، وعلى المستوى العسكري، وعلى الرغم من التفوّق الحالي لواشنطن، فإن بكين قادرة على اللحاق بها. أمّا بالنسبة إلى القوّة الناعمة، فإن قياسها هو عملية إشكالية. طبعاً، هذا البُعد المعياري ليس أساسياً، لكن أخذه في الاعتبار ضروري إن أردْنا صياغة رؤية دقيقة. النموذجان المجتمعي والثقافي الروسي والصيني لا يتمتّعان اليوم بجاذبية كبيرة. تمتلك الولايات المتحدة ورقة قوّة في هذا المجال، لكنّها غير كافية لكي تحتفظ بموقعها في رأس هرم النظام الدولي.
بشكل عام، فقدت القوى الغربية قدرتها على فرض أجنداتها على الآخرين، وباتت الديبلوماسية تعتمد مبدأ المقايضة، مع مفاوضات صعبة في كثير من الأحيان مع الشركاء لا تفضي إلى النتائج المَرجوّة. لدى القوى الغربية حتى الآن، كما ذكرْت، بعض أوراق القوّة، غير أنها ليست تلك التي نُكثر الإشارة إليها عندما نتحدّث عن القيم الغربية. أنا لا أعلم ما المقصود بهذه القيم. هل المقصود هو الإمبريالية والاستعمار ودعم الانقلابات العسكرية في العديد من دول العالم؟ يجب وقْف استخدام مثل هذا المفهوم. هناك مبادئ سياسية كالديموقراطية ودولة القانون، لكنها قد لا تكون قويّة الجاذبية بالضرورة في بقيّة أنحاء المعمورة. الأوروبيون والأميركيون مقتنعون بأن غالبية الشعوب ترغب في استنساخ نموذجهم المجتمعي، لكن ذلك غير صحيح. أمّا بالنسبة إلى نمط الاستهلاك، فإننا لا نستطيع نفْي جاذبية نمط الحياة الأميركي بالنسبة إلى شعوب الجنوب. لم تتمّ قطيعة حاسمة على هذا المستوى، لكنّنا قد نرى ذلك عندما تتبلور نماذج بديلة.

المدير المساعد لـ«معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية في باريس»