لندن | غرقت إيطاليا في لجّة اضطراب سياسي، بعدما بدا لرئيس الوزراء، ماريو دراغي، أن الظروف لم تَعُد مهيّأة له للاستمرار في قيادة الائتلاف اليميني الحاكم الذي يدير الجمهورية منذ 17 شهراً. ولم يجد دراغي بدّاً من عرْض تقديم استقالته، إثر رفْض حركة «خمس نجوم» الشعبوية - أحد مكوّنات الائتلاف - دعم موقف الحكومة في تصويت برلماني حاسم حول حزمة بقيمة 26 مليار يورو، دفع رئيس الوزراء في اتّجاه إقرارها بهدف حماية المواطنين من تأثير ارتفاع التضخّم، كجزء من التدابير العاجلة لمواجهة أزمة الطاقة التي ضربت اقتصادات أوروبا بشكل حادّ. وعلى الرغم من مقاطعة جزء من مشرّعي الحركة في مجلس الشيوخ، التصويت على الحزمة على أساس أن التدابير المقترحة «متواضعة للغاية وغير كافية»، ورفضهم كذلك الموافقة على تمويل تأسيس محطّة لتحويل النفايات إلى طاقة في العاصمة - اعتُبرت أقلّ مناسبة للبيئة من البدائل الممكنة -، فقد تمّت الموافقة على المساعدات كما اقترحها دراغي بأغلبية مريحة. لكنّ رئيس الوزراء، وفق تصريحات حديثة له، متمسّك ببقاء حكومة وحدة وطنية حقيقية، ولذا، فهو لن يبقى في المنصب من دون حركة «خمس نجوم» التي كانت أكبر حزب في البرلمان قبل انقسامها الشهر الماضي إلى فريقيَن متنازعَين. وقال الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، والذي تطلِق عليه الصحف الغربية تسمية «سوبر ماريو» - كمضرب مثل للكفاءة الإدارية -، إن «الوحدة الوطنية التي ساندت هذه الحكومة منذ إنشائها غير متوفّرة الآن». وذكّر خصومه بأنه «منذ البداية، ومن خطاب تنصيبي، قلتُ دائماً إن هذه السلطة التنفيذية لن تمضي قُدُماً إلّا إذا كانت هناك إمكانية صريحة لأن تكون قادرة على تنفيذ البرنامج الحكومي الذي منحت القوى السياسية ثقتها على أساسه. وتلك الإمكانية لم تَعُد موجودة في الواقع». لكنّ الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، سرعان ما رفض استقالة دراغي بعد لقائه به في القصر الرئاسي، وطلب إليه إلقاء كلمة أمام البرلمان الأسبوع المقبل (الأربعاء) لتقييم مدى الدعم الذي ستحصل عليه حكومته، وإمكانية الاستمرار في منصبه أو تشكيل ائتلاف جديد. وبالفعل، فإن قرار ماتاريلا كان مبرَّراً؛ إذ أظهر التصويت في مجلس الشيوخ أنه حتى بدون دعم «خمس نجوم»، فقد كانت الحكومة تتمتّع بالأغلبية، وحصلت على تأييد 172 صوتاً في المجلس المؤلَّف من 321 عضواً. إلّا أنه حتى لو تجنّبت الحكومة السقوط في الاقتراع المقبل على الثقة، فإن هذا الاهتزاز السياسي يترك شكوكاً متزايدة حول قدرة الائتلاف الواسع الذي يقوده دراغي منذ أوائل عام 2021، على الاستمرار مطوَّلاً في بلد اشتُهر عالمياً بقِصر عمر حكوماته، ولا سيّما في ظلّ أزمات ارتفاع التضخمّ والقلق المتزايد في الأسواق بشأن استدامة الدين العام الإيطالي (يبلغ حالياً أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي) والملاءة المالية عموماً للجمهورية، وعدم اليقين في ما يتعلّق بإمدادات الغاز الروسي، إضافة إلى الارتباك السياسي وتفتّت الدعم الشعبي بين الأحزاب.
وردّت الأسواق المالية بقلق على هذه التطوّرات، حيث انخفض مؤشر «فوتسي» للأسهم المسجَّلة في إيطاليا بنسبة 3.4%، وارتفع العائد على السندات الحكومية الإيطالية لأجل 10 سنوات 0.11 نقطة مئوية إلى 3.24%، مع توقّعات المستثمرين بعوائد أعلى متزايدة للاحتفاظ بالديون السيادية لحكومة روما، وهذا بدوره سيضع الكثير من الضغوط على البنك المركزي الأوروبي وعملة اليورو التي ترزح أصلاً تحت ضغوط شديدة، بعدما تدنّت قيمتها الأسبوع الجاري إلى أدنى مستوياتها في عشرين عاماً مقابل الدولار الأميركي، ما يهدّد بزيادة تكاليف الاقتراض ومزيد من التضخّم. ونقلت الصحف الإيطالية عن باولو جنتيلوني، مفوّض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، قوله إن بروكسل تراقب الأزمة السياسية في روما بـ«مزيد من الدهشة والقلق». ومن المعروف أن دراغي (74 عاماً) يُعتبر رجل بروكسل القوي في قلْب السياسة الإيطالية، وكان اكتسب سمعة ممتازة في الأوساط الليبرالية الأوروبية بعدما أدار عملية ناجحة لإنقاذ اليورو خلال الأزمة المالية العالمية قبل عقْد من الزمان. وستكون لدى بروكسل، من دون شكّ، تحفّظات على ترك إحدى أكبر دول الاتحاد في عُهدة زعيم جديد لا تعرِف أهواءه، ولا سيّما في ظلّ تقدّم هام حقّقه اليمين المتطرّف في الانتخابات البلديّة في إيطاليا قبل أشهر قليلة.
ليس من الواضح إلى الآن ما إذا كان تحالف دراغي سينجو من التصويت على الثقة يوم الأربعاء المقبل


وستكون العاصمة الإيطالية، خلال الأيام القليلة المقبلة، مسرحاً للمناورات السياسية المكثّفة من وراء الكواليس، حيث سيقرّر أعضاء البرلمان المفتَّت ما إذا كان بإمكانهم العمل معاً لشراء الوقت حتى موعد الانتخابات القادمة - ربيع 2023 - من خلال إقناع دراغي بالبقاء، أو ما إذا كانوا سيُغرقون البلاد في انتخابات مبكرة لا يبدو أن أحداً قادر على تصوُّر شكل الحكومة التي قد تنبثق منها. وقال إنريكو ليتا، زعيم «الحزب الديموقراطي»، في تغريدة على «تويتر»: «هناك خمسة أيام أخرى للعمل حتى يتمكّن البرلمان من تأكيد ثقته في حكومة دراغي، وتتمكّن إيطاليا من الخروج من الانهيار الدراماتيكي الذي تدْخله الآن». ومن شأن الانتخابات المبكرة أن تثير الشكوك حول قدرة إيطاليا على تمرير ميزانيتها في الخريف المقبل، وسنّ الإصلاحات اللازمة لوضع البلاد على مسار النموّ الطويل الأجل، بعد سنوات من الركود الذي ضاعفت منه انعكاسات تفشّي وباء «كوفيد 19». وكان صندوق الاتحاد الأوروبي الخاص بالتعافي من الجائحة، قد قرّر منْح إيطاليا الفرصة للاستفادة من دعم بقيمة 200 مليار يورو (أو نحو 240 مليار دولار) كأكبر متلقٍّ للمساعدة من بين الدول الأعضاء. إلّا أنه بغيْر ميزانية، فإن مسألة تلقّي هذا الدعم ستدْخل في تعقيدات.
وعلى الرغم من أن الأزمة الحكومية الأخيرة اندلعت بعدما قاطع جناح من حركة «خمس نجوم» التصويت على حزمة دراغي المقترَحة، إلّا أن معالمها كانت بدأت بالتشكُّل بعدما انقسمت الحركة منذ أسابيع، نتيجة صراعات نفوذ وطموحات سياسية بين قياداتها. ويدفع جوزيبي كونتي، زعيم الحركة، في اتّجاه الخروج من الحكومة، سعياً على ما يبدو لتوسيع نطاق استفادته انتخابياً من الغضب الشعبي المتصاعد من التضخّم وارتفاع الأسعار وتدنّي القيمة الفعلية للدُّخول، فيما لا يريد نواب من الحركة خسارة مقاعدهم الحالية في البرلمان من دون وجود ضمانات للاحتفاظ بها حال الدعوة إلى انتخابات مبكرة. وكان كونتي، الشاب الشديد الطموح، أعلن قبل التصويت أنه لم يَعُد في إمكانه دعم حكومة دراغي، لفشلها في القيام بما يكفي لمساعدة الأسر الإيطالية التي تواجه ارتفاعا حادّاً في تكاليف الغذاء والطاقة، وتحديداً منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وانخراط إيطاليا في حلف تقوده الولايات المتحدة فرَض عدّة جولات من العقوبات على روسيا، جاءت بنتائج عكسية. وقال كونتي، بعد اجتماع للحركة يوم الأربعاء: «لديّ خوف شديد من أن يكون أيلول المقبل وقتاً تواجه فيه العائلات الخيار بين دفع فاتورة الكهرباء أو شراء الطعام».
ولم يَعُد الأمر مقتصراً على نواب «خمس نجوم»؛ إذ إن أحزاباً يمينيّة أخرى مثل «رابطة الشمال» بدأت ترى أن من مصلحتها الخروج من الحكومة الآن، قبل أن تُحَمَّل جزءاً من السخط الشعبي على الأوضاع وتدفع الثمن في صناديق الاقتراع العام المقبل. كما قالت جورجيا ميلوني، زعيمة «حزب الأخوّة الإيطالية» اليميني المتشدّد - الذي بقي في المعارضة ولم يلتحق بالائتلاف وشهدت شعبيّته ارتفاعاً كبيراً خلال العام ونصف العام الماضيَين، ليحظى الآن بدعم رُبع الناخبين وفق الاستطلاعات -، إن «هذا البرلمان لم يَعُد يمثّل الإيطاليين. سنناضل من أجل أن نعيد إلى الشعب ما يتمتّع به مواطنو جميع الديموقراطيات الأخرى: حرية اختيار مَن يمثّلهم من خلال انتخابات فوريّة». وأضافت: «مع استقالة دراغي، بالنسبة إلى حزبنا، لقد انتهت صلاحية هذا المجلس التشريعي».
وبحسب استطلاعات للرأي وخبراء، ليس من الواضح إلى الآن ما إذا كان تحالف دراغي سينجو من التصويت على الثقة يوم الأربعاء المقبل. لكنّ الجميع متقاطعون على أن انهيار الحكومة ستكون له ارتدادات يُسمع صداها عبر البرّ الأوروبي كلّه، وفي أسوأ وقت ممكن؛ إذ كان دراغي محوريّاً في دفْع إيطاليا، التي حافظت في كثير من الأحيان على علاقة وثيقة مع روسيا، نحو قلْب الصفّ الأوروبي بشأن مسائل دعم أوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو. وفي عهده، باتت إيطاليا أوّل دولة غربية كبرى تدعم علناً عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. ولعلّ أبلغ تعبير عن طبيعة تلك الارتدادات جاء من أنطونيو ساكوني، عضو مجلس الشيوخ عن حزب «فورزا إيطاليا»، الذي خاطب المتمرّدين على الائتلاف الحاكم بقوله: «إنكم تقدّمون خدمة لبوتين».