سبقت زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للمنطقة ضروبٌ متفاوتة من التمنّيات والحذر الشديد والسقوف المفتوحة على توقّعات بعضها حالم، وبعضها الآخر منخفض، وبعضها الثالث متشائم. الإرباك في توصيف الزيارة، سواءً أميركياً أو إسرائيلياً أو سعودياً وخليجياً أو أردنياً ومصرياً، بقدْر ما كشف عن مصادر قلق كلّ طرف وحاجاته، فإنه، في الوقت نفسه، أوحى، ومنذ البداية، بأن ثمّة تناقضاً عميقاً حول أجندة الرحلة، وخصوصاً منها قمّة جدة. يَبرز هنا الارتباك في تصريحات بايدن حول موعد الزيارة وموضوعاتها ومكان انعقادها والتنازل الأخلاقي الذي تستبطنه بلقاء قاتل جمال خاشقجي، محمد بن سلمان. وإذا كان لكلّ ذلك أن يُوضع في إطار الابتزاز ومحاولة استدراج أكبر قدْر من المغانم قبل موعد القمّة، فإنه يجلّي حقيقة أن الحضارات حين تَشيخ، تُصاب عقول قادتها بالشيخوخة أيضاً. ولا أظنّ أن أحداً يمكن أن يجسّد هذا المرض الأميركي مثل الرئيس الحالي، الذي بدا عاجزاً عن ابتكار أفكار خلّاقة حتى وهو يخطّط لإنقاذ اقتصاد بلاده وسياستها الخارجية من مأزق تاريخي. بالنسبة إلى محمد بن سلمان، تُمثّل القمّة طوْق نجاة. ولا يمكن فصل زيارة بايدن عن جولة ابن سلمان الأخيرة إلى الأردن ومصر وتركيا، حيث تَحوّل الرجل إلى «صرّاف آلي متنقّل» لشراء مواقف هو بحاجة إليها، ومن دول هي أيضاً بحاجة إلى المال السعودي. فجميع هذه الدول تخوض صراعاً من أجل البقاء، بعد أن فتكت الأزمات الاقتصادية والمعيشية بشعوبها، وباتت جاهزة لقبول ما كانت ترفضه سابقاً، سواءً على مستوى الانخراط في مشاريع التطبيع والتنازل فيها عن القدس أردنياً، ورفْض عودة سوريا إلى الجامعة العربية مصرياً، وطيّ ملفّ خاشقجي لمرّة واحدة وإلى الأبد تركياً، من بين أهداف أخرى اقتصادية وسياسية وأمنية. من المنظور السعودي، ثمّة ثلاثة أهداف لقمّة جدّة يراد إنجازها: الأوّل شخصي، ويرتبط بملفّ خاشقجي الذي أفقد ابن سلمان أغلى ما كان يحلم به، وهو أن يكون مُصلحاً دولياً وأن يُكتب اسمه في سجلّ القادة الخالدين، وإذ به «حبيس داره» يحسَب كلّ صيحة عليه، وفي أيّ زيارة ينوي القيام بها يضطرّ لترتيبات أمنية ولوجستية داخلية وخارجية للحؤول دون وقوعه في شرّ أعماله. باختصار، يتطلّع ولي العهد السعودي إلى إنقاذ نفسه، وإعادة تعويمه مجدّداً، ليرجع نظيفاً مبرَّأً من إثم خاشقجي على المستوى السياسي في الحدّ الأدنى (أمّا على المستوى الشعبي، فسوف يحاول عبثاً أن يمحو ما فعله ولن يقدر). وفي المقابل، فإن الإرباك الذي طبع تصريحات بايدن حول لقاء مباشر مع ابن سلمان يعكس المأزق الأخلاقي الذي وضع الرئيس نفسه فيه، كونه سيصافح قاتلاً ثبت بالدليل (كما عرضته وكالة الاستخبارات المركزية) ضلوعه في الجريمة. والمراوغات البائسة حول ذلك لم تبدّل من حقيقة كون بايدن آتياً إلى السعودية وسيلتقي بملكها وولي عهده، وأن التلطّي وراء موضوعات حقوق الإنسان، وطيّ مرحلة «الشيك على بياض»، لا يصلح حتى رماداً، لأن العيون مفتوحة على تنازل أخلاقي هائل، أي مصافحة قاتل، وهو ما لم يفعله ترامب نفسه الذي أقرّ بأنه أنقذ «مؤخّرة» ابن سلمان.
الهدف الآخر من القمة، هو ما يتعلّق بالثنائي السعودي - الإسرائيلي، وهما بالمناسبة الطرفان الأكثر نشاطاً في الأيام التي سبقت زيارة بايدن. مَن يراقب تحرّكات الطرفين وتصريحاتهما، يتأكّد أنهما المعنيّان المباشران بالزيارة وبأهدافها وبرامجها. بطبيعة الحال، فإن ما يريده الإسرائيلي أعلى سقفاً ممّا يتطلّع إليه السعودي، ولذلك عمل الأوّل على تقديم ما يغري الأخير في التقدّم خطوات في مسار التطبيع، ومن بين ذلك الترتيبات الأمنية والاستخبارية التي يقوم بها الإسرائيليون منذ الإطاحة بمحمد بن نايف في حزيران 2017. ونتيجة للتوتّر السائد بين «سي آي إيه» ووليّ العهد السعودي، تولّى «الموساد» توفير الدعم المعلوماتي والأمني له، فيما كانت شخصيات استخبارية من هذا الجهاز تتردّد على الرياض منذ سنوات، وتزايدت وتيرة الزيارات في عهد بايدن. أمّا ثالث أهداف قمّة جدة، فهو تشكيل نظام دفاعي جوّي/ صاروخي يكون بمنزلة شبكة أمان لأجواء المملكة من الصواريخ اليمنية أو الإيرانية أو حتى العراقية، في ظلّ استعدادات محمومة لجولة مواجهات عنيفة قد تشهدها الحرب على اليمن، أو حروب إقليمية قادمة يكون فيها الكيان الإسرائيلي شريكاً كاملاً إلى جانب السعودية ودول «مجلس التعاون الخليجي».
هذه الأهداف كان بعضها واضحاً لقيادة السعودية منذ البداية فيما الآخر بدا مشوَّشاً، وحتى الهدف الثالث الذي تحمّس له البعض في الصحافة المحلية (وهي بالمناسبة لا تحظى باهتمام الجانب السياسي على الدوام)، فإنه لم يكن وارداً في أجندتها، ولم تشتغل عليه لأسباب مرتبطة بقلق من التحالفات العسكرية وتداعياتها داخلياً، وخصوصاً تلك التي تتطلّب وجوداً وانتشاراً، وهو ما يخشى آل سعود تبعاته. وبالإجمال، تبدَّل سقف التوقّعات من زيارة بايدن ارتفاعاً وانخفاضاً بطريقة كاريكاتورية ودراماتيكية. كان أوّل الكلام بعد الإعلان عن موعد الزيارة، وشمولها السعودية وإسرائيل، يدور حول تشكيل تحالف عسكري بين دول «التعاون الخليجي» ومصر والأردن والكيان العبري، برعاية أميركية، في إطار مشروع قديم - جديد عنوانه «ناتو شرق أوسطي»، وهو ما تحدّث عنه بلغة مربَكة ومتناقضة ملك الأردن، عبدالله الثاني، في لقاء تلفزيوني في 24 حزيران الماضي مع قناة «سي أن بي سي» الأميركية. لم تَدُم الفكرة طويلاً؛ إذ صدرت مواقف وتوضيحات من أكثر من طرف عربي ودولي، وحتى الإسرائيليون المتحمّسون لهذا النوع من التحالفات شعروا في لحظة ما بأنّهم حالمون، بلحاظ الانقسامات العربية والخليجية حول هذه الفكرة، وأن من ضروب الخيال والمغامرة الذهاب إلى النهاية مع مشروع لا يمكن أن يحقّق معشار التأييد المطلوب. وبطبيعة الحال، فإن الإسرائيلي الذي يربط كلّ الترتيبات على أنواعها (الأمنية والعسكرية فضلاً عن الدبلوماسية) بالتطبيع، يرى أن عدم وجود «اتفاقية سلام» بينه وبين السعودية، يجعل أيّ تحالف عسكري بلا جدوى. وهكذا، بدأت النزعة الواقعية تتسرّب تدريجياً إلى مطابخ القرار خليجياً وعربياً وإسرائيلياً وأميركياً. ومع أن أجندات الأطراف عامّة لا تزال متباعدة، فإن ثمّة ثوابت، وليس بالضرورة مشتركات، يتمسّك بها كلّ طرف ويعمل على تأكيدها وتحصيل اعتراف بها.
لا تزال ذاكرة الرياض مثقلة بهاجس خلوّ مخازنها من صواريخ «باتريوت»


لناحية الرئيس الضيف، يبدو خطّ زيارته رسالة في حدّ ذاته، وقد أفصح هو نفسه عن ذلك، حين جعل من تل أبيب محطّته الأولى ومنطلقاً، في رحلة مباشرة، إلى مدينة جدّة غربي السعودية. رسالةٌ في التطبيع بالغة الدلالة، وفاتحةٌ لعهد جديد ليس في العلاقة بين الكيان الصهيوني ونظام آل سعود، بل بما تعنيه من تتويج لابن سلمان كمهندس للتطبيع الشامل. ومن هنا، يُفهم كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، الأخير، وإشادته بدور ابن سلمان في توقيع أربع دول عربية اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، وفتح أجواء السعودية أمام الطائرات الإسرائيلية. في حقيقة الأمر، لم يكن ابن سلمان سوى وارث لدور محوري أدّاه الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في واشنطن ورئيس الاستخبارات العامة ومجلس الأمن الوطني سابقاً، على مدى سنوات من أجل إقناع الحكومات العربية بقبول فكرة أن فلسطين المحتلة هي «الوطن القومي للشعب اليهودي»، وهذا ما قاله بلسان في الخيانة فصيح، في مقابلة من ثلاثة أجزاء مع قناة «العربية» السعودية، في تشرين الأول 2020، في موقف لا يفتأ الإعلام الإسرائيلي يستعيده في أجواء الاستعدادات لقمّة جدة. لا جديد في العلاقات الأمنية والإقليمية بين تل أبيب والرياض، وقد واكبت وسائل إعلام إسرائيلية وعربية ودولية ذلك لسنوات، وما هو معلَن يكفي لإثباته، ولكن ما يشكّل «خرقاً» حقيقياً هو بلوغ العلاقة حدّ توقيع اتفاقية تطبيع بين الجانبيَن، وتالياً تفويض النظام السعودي دور «العرّاب» المتوَّج أميركياً وبشكل رسمي لـ«الاتفاق الإبراهيمي». لا شكّ في أن الإسرائيلي يقاتل من أجل هذه اللحظة، والأميركي يعمل عليها، فيما يبقى التردُّد السعودي مرتبطاً ليس بأصل المطلب، بل بالثمن الذي سيحصل عليه في مقابله، وأيضاً بالخسائر التي يجب عليه تحمّلها معنوياً وأخلاقياً من جرّائه. والتلويح المتكرّر من قِبَل بايدن بموضوعات خلافية مثل حقوق الإنسان، والديموقراطية، وحتى الاتفاق النووي مع إيران، يشي بصعوبات تعترض سبيل التطبيع بين الرياض وتل أبيب، كمسألة مركزية في أجندة الرئيس الأميركي الإقليمية، يتوقّف عليها الأمن القومي الإسرائيلي.
السعودية تريد أسلحة هجومية واستراتيجية من واشنطن، ولا تزال ذاكرة الرياض مثقلة بهاجس خلوّ مخازنها من صواريخ «باتريوت»، والذي دفع ابن سلمان إلى استجداء قطر والكويت للحصول على بعض منها بعد أن أصبحت سماء الجزيرة العربية مسرحاً مريحاً للصواريخ والمسيّرات اليمنية. يبدو أن بايدن قرّر تقديم تنازل أخلاقي آخر للرياض بتزويدها بأسلحة هجومية، وكأنّه جاء إلى المملكة ليحرق وعوده الانتخابية الواحد تلو الآخر. ولا شكّ في أن الثمن الذي يطلبه مقابل ذلك سيكون عالياً، في سياق استعداده لانتخابات نصفية فارقة، إذ يتطلّع الرئيس الأميركي إلى تحقيق أهداف كبيرة، من بينها رفع الإنتاج النفطي إلى مستويات تفضي إلى تخفيض الأسعار، وتالياً تخفيف بعض المعاناة اليومية للمواطن - الناخب الأميركي، إلى جانب صفقات تجارية وعسكرية لإرضاء المجمّع الصناعي الأميركي وتحصيل الدعم الانتخابي منه، وتأهيل بيئة بين الحلفاء تكون مؤاتية للدخول في مشروع التطبيع الشامل، الذي ستضحي السعودية منصّته القادمة. وأيّاً يكن، فإن قمّة جدة تنعقد في ظروف بالغة التعقيد، وليس في مقدور الأطراف المشاركة فيها أن تعوّل كثيراً على اختراقات كبيرة. ومن هنا، يبدو مفهوماً بلوغ التشاؤم قاعاً سحيقاً؛ فما يريده السعودي من الأميركي ليس مجرّد العفو عن ابن سلمان وإعادته الى مسرح السياسة الدولية، بل أن يكون محارباً في الميدان معه ضدّ إيران وحلفائها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والمنطقة عامة، وأن يعيد التحالف الاستراتيجي التاريخي إلى سابق مواصفاته، حتى يطمئنّ السعودي إلى أن أخطاءه مغفورة، وأن حماية العرش السعودي لا تخضع للمساومة. أمّا الأميركي فيريد من السعودية أن تبقى منصّة صراعه مع الخصوم الدوليين ولا سيما روسيا والصين، فيما الخصم الإقليمي، أي إيران، وإن كان ثمّة اتفاق على مخاصمته، إلّا أن الطرفَين مختلفان حول كيفية معالجة هذه الخصومة.
بالنتيجة، ما يقدّمه بايدن لابن سلمان يلامس خطوط التماس الأخلاقي وقد يحرقه انتخابياً، كما أن وعده بإحياء التحالف التاريخي يمثّل رسالة بالغة الأهمية بالنسبة إلى السعودية، وهذا بالتأكيد يعني أن النظام السعودي في وضعه الحالي، كنظام ملكي شمولي، وقاتل، وبسجلّ حافل من الانتهاكات لحقوق الإنسان، سوف يبقى تحت الرعاية الأميركية. مع ذلك، فإن ترميم الثقة بين واشنطن والرياض يتطلّب عملاً دؤوباً، ولكن ما هو جدير بالتذكير الدائم، أن العالم لن يبقى كما هو، وأن موازين القوى الدولية وخرائط العالم في حال تبدّل سريع، وأن ما تقدّمه واشنطن اليوم ليس كما كانت تقدّمه في السابق، وأن قدراتها ليست هي كما كانت. فلا هي بالقوة التي كانت عليها ولا خصومها بالضعف الذي كانوا عليه. العالم يتّجه إلى إنتاج قوى جديدة، واختبار أوكرانيا كان ضرورياً للتنبيه إلى أوهام عاش العالم عليها وبات عليه أن يصحو منها على حقائق. بايدن الآتي غداً إلى جدة، يحمل معه فشلاً ذريعاً في مواجهة دولية دفع إليها أوروبا وأغرقها في أزمات اقتصادية ومعيشية وأغرق الولايات المتحدة معها، فيما روسيا التي كان الغرب يبشّر بسقوطها وتفكّكها تَبيّن أنها هي بالفعل سلّة غذاء العالم وخزّان وقوده. هذا هو بايدن الذي سوف يحلّ ضيفاً على السعودية، وسيجتمع مع حلفاء محبَطين يبحثون عن منقَذ... ولكن أنّى لهذا الرجل أن يكون منقذاً؟