دخلت إسرائيل في دوّامة انتخابات هي الخامسة في أقلّ من أربع سنوات، في ترجمة واضحة لحجم الأزمة التي يواجهها كيان العدو على المستوى الداخلي. دوّامةٌ تشي التقديرات بأنها ستكون أشدّ ضراوة من سابقاتها، حيث رئيس المعارضة، بنيامين نتنياهو، وحلفاؤه سيبذلون كلّ ما في وسعهم كي لا يبقى يائير لبيد في منصب رئاسة الحكومة، وخاصّة أن الفشل في تشكيل حكومة بديلة سيكرّس الأخير في هذا المنصب، ويمنحه فرصاً إضافية لتعزيز حضوره الشعبي. في المقابل، سيعمد خصوم نتنياهو إلى «فعل المستحيل»، كما عبّر بعضهم، من أجل الحؤول دون عودته إلى رئاسة الحكومة، على أمل أن يساهم ذلك في دفع حزب «الليكود» أو أيّ من حلفائه، إلى الانفضاض عن «بيبي»، بهدف كسر المعادلة النيابية التي سبّبت شللاً حكومياً ومؤسّساتياً، واستولدت حكومتَين، واحدة لم تصمد عاماً واحداً، وثانية بالكاد بلغته
معاً... ضدّ نتنياهو
هذا المسار، تبلور بشكله المفتوح على سيناريوات متعدّدة، بعدما صادق «الكنيست» على حلّ نفسه صباح أمس، بالقراءتَين الثانية والثالثة، وبتأييد 92 عضواً. وبهذا، يصبح الأوّل من تشرين الثاني المقبل موعداً للانتخابات الجديدة، فيما يتولّى رئيس حزب «يوجد مستقبل»، يائير لبيد، منصب رئيس الحكومة الانتقالية، بموجب الاتفاق الائتلافي الذي تشكّلت على أساسه الحكومة الحالية. وشكَّل قرار حلّ «الكنيست»، نهاية لمجلس وزراء لم يمضِ عليه سوى عام واحد، على رغم كلّ المحاولات التي بذلها أطرافه للحفاظ عليه أطول فترة ممكنة، على الأقلّ إلى اللحظة التي يطيح فيها حزب «الليكود» رئيسه نتنياهو، إلا أن الأخير نجح في تطويق الائتلاف وتقويضه من الداخل، عبر الضغط على الجناح اليمينيّ فيه، ما أدّى في نهاية المطاف إلى انسحاب أكثر من عضو «كنيست» من حزب رئيس الحكومة، نفتالي بينت، «يمينا»، الأمر الذي تسبّب بفقدانها الأغلبية النيابية.
وفي ظلّ هذه الأجواء، قرّر بينت الإمساك بزمام المبادرة، وحرمان نتنياهو الاستفادة من الوقت، من أجل بلورة أغلبية نيابية لمصلحة تشكيل حكومة برئاسته تفادياً لانتخابات غير مضمونة النتائج، فمضى بالاتفاق مع شريكه لبيد نحو حلّ «الكنيست». في المقابل، لم تنجح كلّ المساعي التي بذلها نتنياهو في الأيام الأخيرة لتحقيق هدفه في العودة إلى السلطة في ظلّ «الكنيست» الحالي. وفي النهاية، تشكّل توافق على حلّ البرلمان، بالنظر إلى عدم معارضة أيّ عضو لذلك، وامتناع كتلتَي «العمل» و«إسرائيل بيتنا» عن دعم مشروع القانون، احتجاجاً على امتناع أحزاب الائتلاف عن تمرير «قانون المترو»، الذي بادرت إلى طرحه وزارتا المالية والمواصلات.
الانتخابات المقبلة ستكون أشدّ ضراوة من الجولات السابقة


لكن الحدث الأبرز الذي تزامن مع عودة إسرائيل إلى دوّامة الانتخابات، كان إعلان بينت اعتزاله الحياة السياسية. وهو قرار بدا مرجّحاً منذ لحظة إعلانه قرار حلّ «الكنيست»، وتبادل المناصب مع لبيد. وتبلور هذا الاتجاه لدى بينت، بعد تراجع شعبيته داخل معسكر اليمين، ما جعله يدرك أن من المرجّح جداً أن يفشل في تجاوز العتبة الانتخابية، التي من دونها لن يعود إلى البرلمان، الأمر الذي سيتوّج مسيرته بفشل ذريع، وسيُعدّ إذلالاً كبيراً له، ونصراً مدوّياً لخصمه نتنياهو. ولذلك، قرّر أن يوفّر على نفسه هذه المغامرة، ورمى الكرة في ملعب خليفته، وزيرة الداخلية إيلييت شاكيد، التي ستتولّى رئاسة «يمينا» من بعده. في المقابل، سيواجه نتنياهو تحدّي تأمين أغلبية 61 عضواً كي يضمن تشكيل حكومة يراهن من خلالها على توفير قدر من الحصانة له في مواجهة تهم الرشى الموجّهة إليه. ولكن لتوفير العدد المطلوب، قد يكون معنيّاً بمخاطبة قادة وجمهور اليمين والوسط، الذين إن استطاع جذبهم، سترتفع أسهمه، بعدما التصق في الجولات الانتخابية السابقة باليمين المتطرّف. واستناداً إلى رهانات مشابهة، سيسعى لبيد إلى أن يُثبت أهليته لمنصب رئاسة الحكومة، كما سيحاول مخاطبة الجمهور الذي يقع على يمينه، بالإضافة إلى الكتلة العائمة من الجمهور، والمعتدلين من اليمين الإسرائيلي.

التحدّيات والاختبارات
في كلّ الأحوال، سيواجه لبيد مجموعة من التحدّيات الماثلة أمام الكيان العبري، وفي ضوء أدائه، ستُظهر نتائج الانتخابات إن استطاع أن يترك انطباعاً استثنائياً لدى الجمهور الإسرائيلي. وسيكون عليه أولاً الحفاظ على «الاستقرار الأمني»، ومنع التصعيد مع قطاع غزة. وفي حال نجاحه في ذلك، ستُقدّم حالة الهدوء و»الردع»، كجزء من إنجازاته خلال ولايته المفتوحة على احتمالَين:
الأول، أن تقتصر على عدّة أشهر إلى حين تشكّل حكومة بديلة في ظلّ «الكنيست» القادم.
والثاني، أن تكون أطول ممّا يأمله نتنياهو في حال تحقّق السيناريو المضادّ الذي يتخوّف منه، والمتمثّل في عدم إفراز الانتخابات معادلة نيابية تسمح بتشكيل حكومة جديدة، مع الإشارة هنا إلى أن استطلاعات الرأي التي ستتوالى من الآن فصاعداً، قد تكون أبعد من أن تعبّر عن حقيقة النتائج التي سينتهي إليها الاستحقاق بعد أربعة أشهر. والسبب، هو أن الفترة الزمنية الطويلة، مفتوحة على الكثير من المتغيّرات الداخلية والخارجية، والتي قد تساهم في بلورة الرأي العام في هذا الاتجاه، أو ذاك.
وفي الانتظار، سيكون الاختبار الأول بالنسبة إلى لابيد، لدى استقباله الرئيس الأميركي، جو بايدن، بصفته رئيس حكومة، حيث سيطرح أمامه مروحة من القضايا والتحدّيات التي تواجه تل أبيب، بدءاً من الخطر الإيراني والاتفاق النووي، والمساعي لبلورة حلف دفاعي إقليمي، وصولاً إلى مجموعة مطالب من أجل «أمن إسرائيل»، سيكون بايدن أكثر إصغاء لها عشيّة الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة. ولعلّ «الإنجاز» الأهمّ الذي يحلم لبيد بتحقّقه على يديه، هو بعض الخطوات العملية على طريق التطبيع بين إسرائيل والسعودية، والتي سيسعى إلى استثمارها في حملته الانتخابية. إلا أن ما يعكّر ذلك وجود خشية من أن يدفع تصاعد مسار التطبيع، وخصوصاً في المرحلة الانتقالية في الكيان العبري، الفلسطينيين إلى ردّ في العمق الإسرائيلي، كما حصل بالتزامن مع لقاء النقب، عندما نُفذت عملية قاسية في بئر السبع.
ويواجه لبيد، أيضاً، تحدّي «ضبط» التصعيد مع إيران، في ظلّ تقديرات في إسرائيل حول تصميم إيراني على الردّ على بعض الاغتيالات التي استهدفت ضباطاً في الحرس الثوري. كذلك، ستَحضر أمام رئيس الحكومة الجديد مسألة التعامل مع الأزمة الأوكرانية وإشكاليات العلاقة مع روسيا، وخاصة أنه تميّز بمواقفه الأكثر تشدّداً إلى جانب كييف عندما كان يتولّى منصب وزارة الخارجية، في حين أن أيّ موقف سيتّخذه الآن، سيكون بصفته رأس الهرم السياسي.