منذ بداية تشكيلها، بدا مصير حكومة نفتالي بينيت مرهوناً بمآل التَغيّرات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي، النازح بلا انقطاع نحو أشدّ وجوه اليمين تطرُّفاً، وبالتعقيدات السياسية التي يشهدها الكيان في السنوات الأخيرة، في إطار متاهة بلا مخرج، لم يتمكّن فيها أيٌّ من المعسكرَين من حسم الصراع، الذي يحمل عنواناً يكاد يكون وحيداً هو بنيامين نتنياهو، لصالحه. ولذا، من غير المفاجئ أن عمر حكومة بينيت كان الأقصر في تاريخ إسرائيل؛ ذلك أن الائتلاف الذي تفاخر بأن قوّته تكمن في ضمّ مركّبات سياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتَمثّل تنفّسه الاصطناعي في الركون إلى كتلة ذات جذور إسلامية، جاء مقتله من هذا المكمن تحديداً. وكانت إسرائيل شهدت، عام 2021، حدثاً سياسياً تاريخياً، تَمثّل في انضمام كتلة «الموحّدة» الإسلامية الراديكالية برئاسة منصور عباس إلى ائتلاف بينيت، في سابقة لم تُقدِم عليها مِن قَبل أيّ كتلة عربية من ممثّلي فلسطينيّي الـ48، ليتحوّل بذلك الناطقون المفترَضون باسم الضحايا إلى جلّادين. غير أن ما حدث لم يكن مجرّد انعكاس لتوازنات سياسية في «الداخل» الإسرائيلي، حيث تُمثّل «الموحّدة» بيضة قبّان بذاتها، بل هو غير منعزل أيضاً عن التطوّرات التي شهدتها المنطقة ولا تزال، في ظلّ اتّساع دائرة الدول العربية والإسلامية المُطبِّعة مع العدو. وعلى هذه الخلفية، فإن انضمام «الحركة الإسلامية الجنوبية»، بذراعها السياسي المتمثّل في «الموحّدة»، إلى الحكومة، جاء متساوقاً تماماً مع الجهود المبذولة لتصفية القضية الفلسطينية، خصوصاً أن منصور عباس كان التقى مراراً زعماء قافلة التطبيع وفي مقدّمهم الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، وفق ما فضحه «رفيق الأمس» من «الحركة الإسلامية الشمالية»، الشيخ كمال الخطيب، بل إن عباس نفسه اعترف في أكثر من مقابلة بأنه يحاول «إيجاد نفسه ضمن المشهد الإقليمي المتغيّر»، المرهون دخوله، بطبيعة الحال، بتقديم التنازلات.
وصل عباس، ابن قرية المغار في الجليل الأسفل، لأوّل مرّة إلى «الكنيست» عام 2019، وخاض سباقه ذاك ضمن «القائمة المشتركة»، التي كانت «الموحّدة» إحدى مركّباتها الأربعة. كان هذا قُبيل انشقاق الأخيرة بسبب «تخطّي رئيس المشتركة أيمن عودة، وزميلته عايدة ــ توما سليمان، خطوطاً حُمراً بدعمهما حقوق المثليين»، وفق ما حاولت «الموحّدة» المستنِدة إلى قاعدة شعبية مُحافِظة، أن تُبرّر به سقوطها الوطني ومنْحها الشرعية لحكومة الاستيطان. قبل تلك الخطوة، لم يَجمع الأحزابَ العربية الأربعة ضمن «المشتركة»، منذ عام 2015، الإيمانُ بضرورة إيجاد مشروع وطني وحدوي - لن تمرّ الطريق إليه حتماً من البرلمان الإسرائيلي، الذي لم يستطع مَن وصلوا إليه من العرب حتى تحسين شروط العيْش تحت الاحتلال -، وإنّما ضرورة عبور العتبة الانتخابية التي لن تتمكّن ثلاثة أحزاب على الأقلّ من اجتياز نسبة الحسم فيها، إذا ما خاضت الانتخابات منفردةً في حينه.
خطوات عباس جاءت متساوِقة تماماً مع الجهود المبذولة لتصفية القضية الفلسطينية


ومنذ وصوله إلى «المشتركة»، لم يلمس عباس عند شركائه اختلافاً جوهرياً عنه؛ فهُم أيضاً رشّحوا وزير الأمن، بني غانتس، المتفاخر بأعداد الفلسطينيين الذين قتلهم، كمفوّض لتشكيل الحكومة، متذرّعين بأن ذلك هو «السبيل الوحيد لإسقاط نتنياهو»، وكأن ثمّة اختلافاً جوهرياً بين الإثنين. ومن هنا، وجد عباس مبرِّراً لخطوته التالية؛ إذ خرج بُعيد انتخابات «الكنيست» ليَعرض رؤيته «التغييرية للحلّ»، والتي تقوم ببساطة على المساومة على الحقوق الفلسطينية، على نحْوٍ يتحوّل فيه ابن الأرض المحتلّة إلى مُحرّك لعجلة الاضطهاد والعنصرية التي تطحنه يومياً. وهكذا، في الأول من نيسان 2021، مدّ «أبو رغال» كما وصفه رئيس حركة «حماس» في قطاع غزة يحيى السنوار، يده إلى الإسرائيليين، قائلاً في خطاب متلفز إنه مستعدّ للتحالف - مع أيّ ائتلاف صهيوني - من أجل خلْق «فرصة للحياة معاً في هذه الأرض المقدّسة والمباركة لأطفال الديانات الثلاث ولشعبَيْها»، مشدّداً على أهمية «الحياة المشتركة والسلام والتسامح والرغبة في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي». إلّا أنه لم يكد يمرّ شهر على الحديث المذكور، حتى اندلعت «هَبّة أيار»، مُعرّيةً أوهام عباس.
في خلال كلّ ذلك، كانت أنظار كلّ من بينيت ونتنياهو تتّجه نحو عباس ومقاعده الأربعة، بصفتها العصا السحرية لتشكيل الحكومة. لكن زعيم «الموحّدة»، الذي بدأ في أواخر 2020، التودُّد إلى نتنياهو برفضه التصويت لصالح حلّ «الكنيست» والحكومة، ومِن بَعده إلى بينيت، لم يدرك أن باستطاعته زيادة المشهد السياسي تعقيداً وجعله يتّجه إلى انتخابات خامسة مبكرة، بل على العكس ممّا تَقدّم، جعل من قوّته جسراً لعبور زعيم حزب «يمينا» إلى كرسيّ رئاسة الحكومة، مقابل الحصول على فتات. وبالفعل بعد أسابيع من الهَبّة، انتقل عباس بخفّة من سفينة يمينية إلى أخرى، مُعلِناً مشاركته في حكومة صهيونية، نجحت - ولأوّل مرّة - في طرد نتنياهو من السلطة بعد مكوثه فيها 12 عاماً. وفي معرض تبريره تحالفاته تلك، ادّعى عباس أنه يفعل ما يفعل «من أجل مصلحة» فلسطينيّي الداخل، ومن وجوهها معالجة ظاهرة الجريمة، والحصول على ميزانيات حكومية لقطاعَي التعليم والصحة وغيرهما، وزيادة تراخيص البناء، وإيجاد حلّ للقرى البدوية الفلسطينية غير المعترَف بها في النقب.
إلّا أن «هعرفي هطوف» (العربي الصالح) لم يستطع سوى أن يشغل - نظرياً - مكانة سياسية متقدّمة عن خصومه الفلسطينيين، فيما على مستوى الممارسة، أثبتت صرخات المجالس والسلطات المحلّية الفلسطينية التي انطلقت أخيراً أن «إنجازات» عباس لم تكن إلّا ذرّاً للرماد في العيون؛ لا لأنه يستحيل إجرائياً انتزاع «مكاسب» عبر البرلمان الإسرائيلي (ما يحصّله الفلسطينيون من حقوق وخدمات يدفعون ثمنه من جيوبهم)، بل لأن العقلية الصهيونية الاستعلائية لا تجد في هذه الشخصية وأمثالها، سوى أداة لتجميل صورتها والمُفاخرة بـ«ديموقراطيتها». وفي المحصّلة، أثبتت تجربة عباس، ومِن خَلفه «الموحّدة» و«الإسلامية الجنوبية»، أن تبنّي الخطاب الصهيوني والتماهي التامّ معه، بالتوازي مع المساومة على الحقّ الفلسطيني، لا يستجلبان سوى خيبة أمل على قدْر التوقّعات الموهومة منهما.
مع ذلك، ولأن عباس متمسّك برؤيته حتى بعد فشل تجربته، فإن المشهد السياسي في الداخل يبدو مقبلاً على مزيد من «الشيء (المُشين) نفسه»، خصوصاً وأن هذه الحركة باتت متمرّسة في نهج المقايضة، الذي تَصمت بموجبه عن جرائم الاحتلال وسياساته، بل وتؤمّن غطاءً لها، كما ظهر أخيراً في استماتة عباس لتمرير «أنظمة الطوارئ» التي تُقوِنن الفصل العنصري في الضفة المحتلّة. وفي ظلّ هذا الوضع، قد يَعقد بعض الفلسطينيين آمالهم على «المشتركة» بصفتها خصماً لـ«الموحّدة»، وحتى على أولئك الذين يتبنّون نهج مقاطعة الانتخابات، وسط ترقُّب - بلا نتيجة إلى الآن - لمشروع سياسي بديل، يقوم بالفعل على التمسّك بالحقوق الوطنية، ويمتنع عن التفريط بها تحت أيّ ظرف.