ليس خافياً على أحد أن حزب «العدالة والتنمية»، ومنذ وصوله إلى السلطة، والنزعة العثمانية الجديدة تتلبّسه. وهو ما تجلّى في مواقف مسؤوليه، القدامى كما الجُدد أو أولئك الذين انشقّوا لاحقاً عن زعيم الحزب، رجب طيب إردوغان، وفي مقدِّمهم أحمد داود أوغلو. لم يكتفِ هؤلاء بالتعبير عن هواهم العثماني، بل تعمّدوا ترجمته عبر خطوات عمليّة، تعيد الاعتبار إلى هذه المرحلة، مِن مِثل إطلاق أسماء عثمانية على عدد كبير من المنشآت والمؤسّسات والمشاريع والجامعات والمدارس. ولكنّ الخطوات الأكثر أهمّية كانت في محاولة لا تزال مفتوحة لاستعادة «ما أمكن» من «حدودٍ» عثمانية اقتصرت، في خطب إردوغان، على الأراضي العثمانية التي أصبحت الآن جزءاً من دولٍ أخرى، مثل سوريا والعراق والقوقاز واليونان، والتي تضمّنتها خريطة ما عُرف بـ«الميثاق الملّي» الذي أقرّه البرلمان التركي في 28 كانون الثاني 1920، ويضمّ الأراضي التي صارت تشكل كلّ الشمال السوري والعراقي، وجانباً من أراضي القوقاز وجزر بحر إيجه.التطلُّع التركي إلى «استعادة» هذه الأراضي، تمظهر بقوّة ليس في خطابات إردوغان ورفاقه فقط، بل وأيضاً في العمليات العسكرية المتتالية التي استهدفت، منذ عام 2016، أراضي شمال سوريا، كما العمليات الأقدم والتي لا تزال مستمرّة في أراضي شمال العراق. وإذا كانت سلطة «العدالة والتنمية» تقوم بهذه العمليات بذريعة «التخلُّص» من «وحدات حماية الشعب» الكردية في سوريا، والتي تَعتبرها أنقرة امتداداً لـ«حزب العمّال الكردستاني»، غير أن ذلك يتعدّى مجرّد وجود مثل تلك الذرائع، إلى السعي للسيطرة التدريجية على أراضي «الميثاق الملّي». وفي هذا الإطار تحديداً، تندرج خطوات «دمْج» مناطق الشمال السوري بالداخل التركي من خلال تعميم التعليم التركي واللغة التركية واستخدام الليرة التركية وافتتاح فروع لجامعات تركية في إعزاز والباب وغيرهما، وتدريس التعليم الديني بإشراف رئاسة الشؤون الدينية، وافتتاح فروع للبريد التركي، وإلى ذلك، تشكيل «جيوش» رديفة للجيش السوري، مِن مِثل «الجيش السوري الحرّ» و«الجيش الوطني السوري».
لذا، تكتسب عمليات تغيير البنية الديموغرافية في شمال سوريا، أهمّية بالغة من خلال دفْع الأكراد، كما غير الموالين لإردوغان، إلى مغادرة تلك المناطق، ولا سيما عفرين، وإحلال مجموعات سكانية تَدين بالولاء لأنقرة ولا تنتمي أصلاً إلى الأراضي المستهدَفة، ليصحّ القول فيهم إنهم مستوطنون وليسوا مواطنين. وفي آخر الخطوات، بدأ إردوغان إسكان عشرات الآلاف من هؤلاء السوريين «الموثوقين» في المناطق المحتلّة في بيوت من إسمنت، فيما يقدِّر الأتراك عدد الذين «عادوا»، حتى الآن، بنصف المليون. وهنا، استيقظت من جديد نغمة «المنطقة الآمنة» التي ظهرت مع بداية الحرب على سوريا، وعادت بقوّة مع تصريحات إردوغان أمام الأمم المتحدة الصيف الماضي، ومن ثمّ أخيراً حين وعد بإقامة هذه المنطقة، مطالباً الدول بدعم خطوته التي يَتوقّع أن تشمل إعادة نحو مليون لاجئ سوري ليسكنوا فيها. خطواتٌ تشبه إلى حدٍّ بعيد ما كان يفعله مصطفى كمال أتاتورك، وعصمت إينونو، من تهجير للأكراد والعلويين من مساكنهم الأصلية إلى مساكن أخرى، أملاً في أن يؤدّي ذلك إلى منْع تجدُّد انتفاضاتهم ضدّ سياسة الدولة التمييزيّة. وهو ما حصل بالفعل بعد ثورات الشيخ سعيد عام 1925، وانتفاضة آغري مطلع الثلاثينيات، والثورة الأكبر في ديرسيم عامَي 1937-1938 والتي انتهت بأكبر عملية تصفية للأكراد - العلويين وتهجيرهم من هناك، وتغيير اسم ديرسيم إلى تونجيلي.
يوم الإثنين الماضي، كانت تركيا على موعد مع فصل جديد من فصول «العثمنة»، حين أُطلق اسم «عبد الحميد خان» على سفينة التنقيب الرابعة التي باتت في حوزة أنقرة، بعدما اشترتها من سيول. والمفارقة، أن السفن الثلاث الأخرى حملت أيضاً أسماء سلاطين عثمانيين، هم: محمد الفاتح، وسليم الأول، وسليمان القانوني. يضاف ذلك إلى إطلاق اسم مؤسّس الدولة، عثمان، على جسر في شرقي بحر مرمرة، واسم السلطان سليم الأوّل (يُعرف في تركيا بلقبه ياووز، أي القاسي) على آخر جسر بُني فوق مضيق البوسفور قرب مدخل البحر الأسود. وأثار ذلك استياءً شديداً لدى العلويين الذين طالبوا بتغيير اسم الجسر، كما رفعه عن أسماء الكثير من الثانويات والمعاهد، لأن لسليم ياووز سجلّاً حافلاً في قتْل العلويين في مطلع القرن السادس عشر.
يُتقن الرئيس التركي فنّ تحويل اهتمامات الرأي العام، من خلال إبراز حجم الإنجازات ومحاولة التقليل من أهميّة أيّ إخفاق، أو العمل على حرْف الأنظار عن مشكلة معينة بدفع قضيّة جديدة إلى واجهة الاهتمام. ومن ذلك مثلاً، التهديد بعملية عسكرية في سوريا أو طرْح إنشاء منطقة آمنة. لكنّ إطلاق اسم السلطان عبد الحميد خان الثاني على سفينة التنقيب الجديدة، لم يَرُق للكاتب مراد يتكين، الذي يُبدي قلقه من أن يكون إطلاق الاسم الجديد «ليس حرفاً للأنظار عن مشكلة معيّنة، بقدْر ما هو ترجمة لهَوَس راسخ بنظرية العثمانية الجديدة. وهذه هي المأساة الأكبر»، كما يقول. وبحسب يتكين، فإن سياسة إردوغان العثمانية هذه، «تُقحم تركيا وليس فقط إردوغان في مشكلات تبدأ ولا تنتهي، من دخول سوريا عام 2011 والذي بُني على حسابات خاطئة، والوعد بإطاحة بشار الأسد خلال ستّة أشهر والصلاة في الجامع الأموي. وهي سياسة لن تُمكّن إردوغان، اليوم، من إقناع لا أوروبا ولا أميركا ولا حتى روسيا، بالتهديدات التي تواجهها بلاده. حتى ما هو حقّ لتركيا في شرق المتوسط وبحر إيجه، يَظهر في وسائل الإعلام الخارجية على أنه سياسات توسعيّة. من ذلك، اتفاق مونترو لعام 1936 الذي تتّضح، اليوم، أهميّته القصوى بالنسبة إلى أنقرة، فيما انتقده إردوغان سابقاً بشدّة، ليس لأنه لا يؤمن به بل لأنه يحاول أن يشوّه صفحة أتاتورك وعصمت إينونو اللذين وقّعا في عهدهما هذا الاتفاق».
ويضيف مراد يتكين أن إخفاقات إردوغان في السياسة الخارجية ناتجة من عدم قدرة الإسلاميين الأتراك على التحرُّر من أوهام العثمانية الجديدة. وعلى رأس هذه الأوهام، أن الشعوب العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، لا تزال تحنّ إلى تلك المرحلة، وتريد عودة «العثملّي» ليحكمها. ويتساءل: «ألا يقرأ إردوغان كتاب الأمير عبدالله الأردني: لماذا انتفضنا على الدولة العثمانية؟»، ليختم مقالته بالقول، إن «تركيز إردوغان الشديد على توقه العثماني ليس مصدره فقط محاولة حرْف الأنظار عن الأزمة الاقتصادية الحالية، بل هو يؤمن بكلّ جدّية بذلك. وهنا أساس المأساة».