لم تكد الحكومة الألمانية تُنهي إجراءاتها لمعالجة التضخّم الذي سبّبته أزمة جائحة «كورونا»، حتى قامت الحرب الروسية - الأوكرانية، وما لحقها من تداعيات أدّت إلى خلط جميع الأوراق الأوروبية، وتسبّبت بتململ شعبي متزايد جرّاء ارتفاع أسعار الطاقة ومعها كلفة المعيشة. وعلى خلفيّة هذا التململ، انتهجت الحكومة الألمانية سياسات باهظة الكلفة لإرضاء الناس، مِن مِثل إقرار بطاقة شبه مجّانية للنقل العام وخفض الضرائب على مصادر الطاقة.
بطاقة التسعة يورو
وافق البرلمان الألماني على اقتراح الحكومة إقرار بطاقة بقيمة 9 يورو شهرياً، وذلك لمدّة ثلاثة أشهر ابتداءً من حزيران، تسمح لحاملها بأن يستقلّ أيّ وسيلة نقل عام محلّية على كامل الأراضي الألمانية. وأُقرّ الاقتراح بعد جدل واسع داخل البرلمان أوّلاً، وبين حكومات المقاطعات ثانياً، وبينها وبين الحكومة الفيدرالية ثالثاً، حول مَن سيتحمّل تكلفة هذا المشروع، والتي قُدّرت بنحو 2.5 مليار يورو، حاولت وزارة النقل العام تحميل جزء منها للحكومات الإقليمية، عبر استخدام حزم المساعدة التي استهدفت قطاع النقل العام خلال جائحة «كورونا»، الأمر الذي أشعل خلافاً تسبّب بتأخير تحويل الاقتراح إلى تشريع نافذ.
ويصف الخبير الألماني، يان شيلينغ، المشروع بأنه «سابقة سياسية اجتماعية»، لافتاً إلى أن «الأعباء ستزيد مع ازدياد ركّاب وسائل النقل، وما يعنيه ذلك من اكتظاظ، بالإضافة إلى الحاجة إلى تسيير عدد أكبر من الرحلات»، متوقّعاً أن «يبلغ عدد مستخدمي النقل العام نحو 30 مليوناً، سيحصلون على البطاقة شهرياً». وكانت الشركة المشغّلة لقطاع القطارات، «دويتشه بان»، تبنّت تلك التحذيرات، ودعت إلى رفع الاستثمار في القطاع قبل تشريع البطاقة، منبّهةً إلى أن الأكلاف المالية ستفوق التوقعات إذا ما جرى احتساب الأعطال التي سوف تزداد مع ازدياد عدد الرحلات، فيما ستَبرز الحاجة إلى عدد أكبر من الموظفين في القطارات والحافلات. لكنّ النزاع حُسم أخيراً بالمضيّ في الخطّة، مع تحميل الحكومة الفيدرالية كامل كلفتها، علماً أن إقرار المشروع تَرافق مع خفض الضريبة على مصادر الطاقة بقيمة 30 سنتاً على ليتر البنزين، و14 سنتاً على ليتر المازوت.

إجراءات متفاوتة
منذ بدء التوتّر على الجبهة الأوكرانية، وحتى قبيل إعلان روسيا بدء عمليتها، اتّجهت الأنظار نحو برلين لاستكشاف ما سيقرّره المستشار الجديد، أولاف شولتس، بخصوص التعامل مع موسكو، ولا سيّما أن أيّ قرار تتّخذه ألمانيا في هذا الصدد، سيمثّل مؤشّراً كاشفاً على المستوى الأوروبي ككلّ، سواءً من ناحية حجم العقوبات، أو كمّ السلاح الذي يمكن أن يُرسَل إلى أوكرانيا، كما أنه سيزيد أو يقلّل من حماسة الدول الأوروبية الأخرى لاتّخاذ قرارات «حازمة». لم تكن التّوقعات، ابتداءً، مرتفعة؛ إذ وُصف شولتس عند تسلّمه منصبه بأنه رجل متردّد، إلّا أن إعلانه لاحقاً تحويل 2% من الناتج المحلّي الإجمالي إلى ميزانية القوّات المسلّحة، وهو قرار لطالما عارضه قبل ذلك، مثّل مفاجأة رحّبت بها الإدارة الأميركية، كما صقور «الناتو» داخل الاتحاد الأوروبي. تبعت هذا القرارَ حزمة من العقوبات على الصادرات الروسية، آخرها تَمثّل في حظر الفحم الحجري الروسي، على رغم تأكيد وزير الاقتصاد، روبرت هابيك، أن ذلك الحظر لن يؤثّر على الاقتصاد الروسي. على أن تلك الخطوة لم يصاحبها وقف استيراد الغاز الروسي، بل إن ألمانيا افتتحت شركة جديدة تُدعى «ڤي أن جي»، حتى تتمكّن من دفع المستحقّات الروسية بالروبل، في وقت تضغط فيه ألمانيا على دول أخرى لحظر مصادر طاقة تعتمدها هذه الدول بالكامل، ولا قدرة لديها على التخلّي عنها ببساطة، كما هو حال المجر وحاجتها إلى الفحم الحجري.
وافق البرلمان الألماني على اقتراح الحكومة إقرار بطاقة شبه مجّانية بقيمة 9 يورو شهرياً


هزيمة ثالثة
في مقال لمايكل هادسن بعنوان «أميركا تهزم ألمانيا للمرّة الثالثة في قرن»، وصف الباحث ما جرى بعد الحرب الروسية - الأوكرانية بـ«الهزيمة الألمانية الثالثة أمام الولايات المتحدة الأميركية خلال هذا القرن». ربط هادسن بين المجمّعات الثلاثة المتحكّمة بصنع سياسات واشنطن الخارجية، وهي مجمّع التصنيع العسكري ومجمّع الشركات النفطية ومجمّع البنوك والعقارات، وبين السياسات التي لطالما جرى الضغط على ألمانيا للعمل بها. ولعلّ أبرز نموذج على ذلك هو التعامل الأميركي مع قضية خطّ الغاز الذي يصل روسيا بألمانيا «نورد ستريم 2»، والذي مثّل الشغل الشاغل للإدارة الأميركية على اختلاف رؤسائها، منذ التخطيط له، إلى حدّ اضطرار روسيا لبنائه بمفردها بعد انسحاب الشركات الأخرى من المشروع بسبب العقوبات التي فرضتها أميركا عليها، وحتى عند الانتهاء من بنائه، لم توقّع ألمانيا على المرسوم الذي تبدأ على إثره عملية استيراد الغاز إليها. وفي زيارة شولتس للبيت الأبيض، في السابع من شباط الفائت، بدا جليّاً إصرار الرئيس الأميركي، جو بايدن، على دفن «نورد ستريم 2». وعلى رغم أن شولتس اكتفى حينها بالتأكيد أن ألمانيا وأميركا ستكونان في المركب نفسه، إلّا أنه سرعان ما خرج لينعَى المشروع، مع الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق، دونالد ترامب، كان سبق أن نجح في الحصول على تعهّد من المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، بإنفاق مليار دولار لبناء مرفأ يتلاءم مع حاجات استيراد الغاز المسال عبر البواخر، لكنّ المشروع لم يُستكمل بعد سقوط ترامب في الانتخابات وانتهاء ولاية ميركل.
عام 2006، اتّفق أعضاء «الناتو» على تحويل 2% من ناتجهم المحلّي للإنفاق العسكري، إلّا أن معظمهم تخلّفوا عن التقيّد بذلك. وقد كانت لشولتس تصريحات عديدة، أبرزها عام 2017، رفض فيها الالتزام بهذا المطلب، بينما أعلنت ميركل، عام 2019، أنه مع حلول عام 2031 قد يكون باستطاعة ألمانيا أن تصل إلى النسبة المذكورة، مستدركةً بأن في ذلك طموحاً قد لا يتحقّق. وعلى رغم موقفه السابق، أعلن شولتس، في كلمة أمام البرلمان في السابع والعشرين من شباط الماضي، نيّته رفع نسبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلّي إلى ما يتجاوز 2%، وهو ما لاقى ترحيباً أميركياً، حتّى إن بعض التقارير الصحافية رأت في قراره إيذاناً بانتقال ألمانيا إلى مرحلة جديدة تماماً.

خلاصة
في الوقت الذي كانت تتحضّر فيه دول مثل ألمانيا لسحب الكتل النقدية التي ضخّتها ضمن حزم المساعدة لمواجهة جائحة «كورونا»، أتت الحرب الروسية - الأوكرانية لتدفع بها إلى صرف المزيد من تلك الحزم، على الرغم من مخاطر ارتفاع نسب التضخّم. وعلى الرغم من الآثار المترتّبة على ألمانيا اقتصادياً من جرّاء الحرب، استمرّت برلين في قيادة الدول الأوروبية، التي لا تمتلك المستوى نفسه من الموارد، نحو موقف أكثر حزماً من روسيا، مع ما يعنيه ذلك من تكاليف إضافية. قد تستطيع الأحزاب الألمانية الممثّلة في الحكومة، ومِن خَلفها اليسار بشكل عام، الترويج للسياسات الشعبوية التي تتّبعها على أنها تأتي في سبيل تعزيز الطاقة الخضراء. كما يمكن لها أن تكيل الاتهامات للأحزاب التي عارضت تشريع تلك السياسات بأنها تمثّل الطبقات العليا في المجتمع (والتي لن تصعد في وسيلة نقل عام مهما ارتفعت أسعار الطاقة). لكنّ الواقع هو أن ثمّة تقوّساً مستمرّاً للسيادة الألمانية أمام النفوذ الأميركي، وأنه عِوَض أن تُعزَّز الطاقة الخضراء والبديلة، فقد آلت الأمور إلى «حريق ألمانيا الثالث». وبالقياس إلى دور ألمانيا القيادي في الاتحاد الأوروبي، تصبح النتيجة أن الحريق لن يقتصر عليها فحسب، بل سيمتدّ إلى جميع جيرانها.