أتمّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، عاماً كاملاً في منصبه، تبنّى خلاله سياسة خارجية ديناميكية في أفريقيا، حيث كان أوّل رئيس وزراء لدولة الاحتلال يزور مصر منذ 11 عاماً (أيلول 2021)، فيما رعت سفيرته في باريس، يائل جيرمان، أواخر أيار، مؤتمراً موسّعاً حول العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية (بحضور ديبلوماسيين ورجال أعمال وممثّلين لشركات إسرائيلية وأفريقية وفرنسية)، عُدّ بدوره محطّة فارقة للاستفادة من دور فرنسا بالغ الخصوصية في القارّة، بحسب تعليق مديرة قسم أفريقيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية. وتَكشف متابعة أداء حكومة بينت الأفريقي طوال العام، عن تنوّع نقاط ارتكازها في هذه الحركة داخل القارّة، من شرق البحر الأحمر إلى المغرب وفرنسا.
الاقتصاد والفرصة الأفريقية
مثّلت «اتفاقيات آبراهام» (آب 2020) رافعة مهمّة في محاولات إسرائيل إعادة الانخراط في أفريقيا؛ كونها خوّلتها الاستفادة من «ميزاتها التنافسية» في مجالات مِن مِثل التكنولوجيا والدفاع، من أجل نشرها في أفريقيا مباشرة أو عبر «شراكات عربية» ذات خبرة على هذا الصعيد. وعلى سبيل المثال، فقد طوّرت شركة «جيجاوات جلوبال» الإسرائيلية، العام الماضي، في رواندا، أوّل مرفق «فولتضوئي» في شرق أفريقيا، حيث تقوم حالياً ببناء أوّل حقل للطاقة الشمسية في بوروندي المجاورة، وتُوسّع أنشطتها في غرب أفريقيا، بعد توقيع اتفاق مع «إيكواس» لاستثمار بليون دولار في تطبيق مشروعات «الطاقة الخضراء». كما تُطبّق شركة تكنولوجيا إسرائيلية نُظُماً للتخلّص من تلوّث المياه في غانا والكاميرون، فيما عزّز توسُّع التهديدات الإرهابية في شرق أفريقيا والساحل نمطاً مستداماً من «التعاون» الاستخباراتي والأمني بين إسرائيل ودول هاتَين المنطقتين.
وعلى رغم ذلك، لم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين إسرائيل وجميع دول أفريقيا جنوب الصحراء، حاجز 850 مليون دولار في عام 2019. كما لم تمثّل صادرات إسرائيل إلى هذه الدول سوى 1% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى العالم. ويكشف التوزيع الجغرافي لهذه التجارة عن استقطاب حادّ؛ إذ تستأثر جنوب أفريقيا (290 مليون دولار) ونيجيريا (173 مليون دولار) وإثيوبيا (121 مليون دولار) بنحو 66.4% من هذه الصادرات (التي تتركّز بدورها في الكيماويات والآلات والمعدّات الزراعية بالأساس). ولا يُتوقّع حدوث طفرة في حجم هذه العلاقات في العام الحالي، في ظلّ انكماش الاقتصاد الإسرائيلي، كما اتّضح في تراجع الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر الثلاثة الأولى من 2020 بنسبة 1.6، بدفْعٍ من تدهور الصادرات والاستهلاك والإنفاق الحكومي.

«أجندة بار-لي»
في ما يبدو تراجعاً عن أسلوب رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، المتمثّل في الانخراط المباشر، بل والشخصي، في سياسات إسرائيل الأفريقية، عمد بينت إلى تفعيل استراتيجية «معاملات الشركات» (كما اتّضح في مؤتمرَين متعاقبَين للشركات الإسرائيلية في الرباط وباريس نهاية أيار الماضي)، ولا سيّما في قطاعات الزراعة وتقديم الدعم الأمني والتكنولوجي وإنتاج «الطاقة الخضراء»، وهي استراتيجية وجدت ترحيباً من دول أفريقية، لاعتبارات عدّة من قبيل تدنّي مشروطيّاتها السياسية (أقلّه علناً)، واعتمادها على تعاون متعدّد الأطراف (مع دول ثالثة مِن مِثل المغرب وفرنسا والإمارات).
مثّلت «اتفاقيات آبراهام» رافعة مهمّة في محاولات إسرائيل إعادة الانخراط في أفريقيا


وكثّفت إسرائيل، في عهد بينت، اعتمادها على عدد من الشركاء النافذين في القارّة، وعلى رأسهم فرنسا (إلى جانب المغرب الذي شهد مؤتمراً مماثلاً لمؤتمر باريس، نظّمته السفارة الإسرائيلية هناك قبل أيام) التي تتمتّع «بعلاقات خاصة جدّاً مع أفريقيا، خاصة الناطقة بالفرنسية»، كما أوردت مديرة قسم أفريقيا في الخارجية الإسرائيلية، شارون بار-لي، مُعلِنةً أن بلادها تتطلّع إلى توظيف هذا النفوذ بين جمهور واسع من العامّة ورجال الأعمال والأكاديميين وغيرهم. ولفتت بار-لي إلى «التأثير الإيجابي للتغيّرات في الشرق الأوسط واتفاقيات آبراهام والتطبيع مع بعض دول الخليج وشمال أفريقيا والتعاون في مجال المصالح المشتركة، ووجود فرص وتهديدات إسرائيلية - أفريقية مشتركة مثل الأمن، ومحاربة الإرهاب، وتوفير الأمن الغذائي، وتداعيات الجائحة وتغيّر المناخ»، مضيفة أن إسرائيل تَعتبر «الخلافات السياسية» مسألة هامشية في مسار «التعاون» مع أفريقيا، وأنه «يمكن الحفاظ على قدْر من عدم الاتفاق فيما يستمرّ التعاون»، كما في حالة تشاد التي تمّ «تجديد العلاقات معها» للمرّة الأولى منذ 50 عاماً (في أيار الفائت).

«البوابة العربية»
حافظ المغرب وإسرائيل على علاقات غير رسمية طوال عقود فائتة، حتى نجحت الأخيرة في كسر هذا الشكل وبدء علاقات رسمية كاملة مع الرباط، استهلّتها بالتوصّل إلى اتّفاق «تعاون أمني» (تشرين الثاني 2020)، تلاه (كانون الأول 2020) إعلان ثلاثي (الولايات المتحدة والمغرب وإسرائيل) عن إقامة هذه العلاقات. وقبل اكتمال عام على صعود حكومة بينت، وقّعت مجموعة شركات خاصة وحكومية مغربية وإسرائيلية في الرباط (23 أيار الفائت) 13 مذكّرة تفاهم «لاستكشاف إمكانات التعاون المشترك في مجالات الزراعة وتكنولوجيا المياه واللوجيستيات ورأس المال البشري». وجاءت تلك الخطوة في سياق تعويل إسرائيل بقوّة على المغرب (الذي يوجّه 7.7% فقط من صادراته إلى الدول الأفريقية) في الملفّ الاقتصادي الأفريقي، خصوصاً مع توقيع الأخير «اتّفاق منطقة التجارة الحرّة القارّية الأفريقية»، والذي أصبح سارياً في كانون الثاني 2021. ويمكن لإسرائيل، وفق تقديرات «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» (INSS) (26 أيار 2022)، أن تَفتح عبر المغرب بوّابة نحو أفريقيا، خاصة الدول التي لا تملك إسرائيل معها علاقات ديبلوماسية (في تكرار مبالَغ فيه ومضلِّل؛ إذ تملك إسرائيل علاقات ديبلوماسية مع جميع الدول الأفريقية، باستثناء تسع فقط، أبرزها الجزائر التي قطعت علاقاتها بالمغرب على خلفيّة تطبيع الأخيرة علاقاتها مع تل أبيب)، والاعتماد على خبرة الرباط، وتطويرها في السنوات الأخيرة، لا سيّما في دول أفريقيا الفرانكفونية في غرب القارّة ووسطها، بُنية أعمال وأموال أساسية مهمّة، ينشط عدد كبير من فروع البنوك المغربية فيها.
أمّا الإمارات، التي تُقدَّر تجارتها غير البترولية في أفريقيا بقيمة 25 بليون دولار (2021)، ويُتوقَّع تزايدها في الأعوام المقبلة مع توسّع أنشطة أبو ظبي في قطاعات السياحة والبُنية الأساسية والطاقة والتعدين والبترول والغاز والنقل، فإنها تظلّ «الشريك المثالي» لإسرائيل في أفريقيا، بالنظر إلى تطابق تَوجّهاتهما الخارجية وتكامل أدواتهما المالية والأمنية والتكنولوجية، إضافة إلى ما لاحظه مراقبون أفارقة من اتّباع الإمارات سياسة خارجية مليئة بالتناقضات بين أهداف معلَنة وسياسات عملية تتجاوز مفهوم «الدولة التقليدية»، على نحو يتيح فرصاً للحضور الإسرائيلي. ومن المرجّح أن يتعاظم التنسيق الإسرائيلي - الإماراتي في أفريقيا في العام المقبل من ولاية حكومة بينت (في حال استمرار هذه الحكومة)، بعد توقيع الجانبَين، نهاية أيار، اتفاقاً للتجارة الحرّة سيفضي إلى إعفاءات جمركية على 96% من تبادلاتهما التجارية في غضون خمسة أعوام، ووصول التجارة بينهما من 885 مليون دولار (2021) إلى نحو 10 بلايين دولار في نهاية هذه الفترة (مع ملاحظة تجاوز التبادل بينهما في السلع غير البترولية في الفترة من أيلول حتى آذار 2020، حاجز 2.5 بليون دولار). وسيتركّز هذا «التعاون» في مجال «بحوث الذكاء الاصطناعي والتنمية» كمكوّن رئيس في سلاسل الإمداد العالمية، في ظلّ صدمات هذه السلاسل الحالية، لا سيما في أفريقيا.

«الديبلوماسية الشعبية»
تحدّثت بار-لي، في تصريحها المُشار إليه أعلاه، عن «انفتاح حكومات (أفريقية) مسلمة» على إسرائيل أكثر من أيّ وقت مضى، وتبنّي تل أبيب ما تُسمّى «الديبلوماسية الشعبية» تجاه المجتمعات الأفريقية، كما في غانا حيث تعمل على «معالجة مسائل انعدام الأمن الغذائي والفقر والزراعة»، ورواندا التي نشرت فيها مزارع ومراكز امتياز بهدف جذب الشباب الرواندي للعمل فيها، فضلاً عن تكثيف حضورها «التنموي» في إقليم الساحل بالتعاون مع المنظّمات الإقليمية (خاصة الاتحاد الأفريقي) والدولية للمساعدة في مواجهة التصحّر. ومن هنا، تتوقّع إسرائيل تراجُع بعض الدول الأفريقية الرافضة لعضويتها كمراقب في الاتحاد الأفريقي، عن ما سمّته «خطاب الركون إلى الماضي وأيديولوجيات ما بعد الحرب الباردة». وفي الاتّجاه نفسه، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، في مؤتمر باريس نفسه، أن «إسرائيل عائدة إلى أفريقيا، وذلك ليس شعاراً، بل حقيقة ديبلوماسية واقتصادية واجتماعية».