على رغم أن قرار «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية» ضدّ إيران، حافظ على مستوى معيّن من «الاعتدال» حتى لا يَقطع «شعرة معاوية» مع طهران، إلّا أن السياق الذي يأتي فيه، وحملة الضغط المكثّفة التي رافقته ويُرجَّح أن تستمرّ مِن بَعده، ينبئان بأن المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من التصعيد بين إيران والغرب، لا يُعلَم، من الآن، المدى الذي يمكن أن يصل إليه. وإذ تَشي الأجواء الآتية من طهران بأن ثمّة دفْعاً نحو اتّخاذ إجراءات تصعيدية مضادّة، مِن قَبيل الانسحاب من «معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية»، فالأكيد أن مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، المتعثّرة أصلاً، ستزداد تعثّراً، فيما بات هدف إحياء «خطّة العمل المشتركة الشاملة» بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً. استحالةٌ تُعزّز توقّعها إعادةُ الحديث عن تشكيل مظلّة دفاعية مشتركة بين إسرائيل ودول الخليج، برعاية أميركا، التي جدّد مسؤولوها أمس التشديد على أهمية تشييد هذا النظام، في وقت كان فيه نفتالي بينت يهاجم «التهديد الإيراني» من أبو ظبي، محاولاً البعث برسالة تضامن، لا يبدو إلى الآن أنه سيكون لها كبير الأثر في تشكيل معادلة جديدة بوجه طهران
حلّ رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، ضيفاً على الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، في لقاء هو الثالث من نوعه الذي يجمع الرجلَين في غضون أشهر قليلة. وتحمِل الزيارة معاني متباينة: فهي، من وجهة نظر تل أبيب، تهدف إلى تعزيز الشراكة الأمنية في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة؛ بينما تهدف، كما يَرِد من الإمارات، إلى توثيق التعاون الثنائي في مجالات التنمية المختلفة (الاستثمارات والبنى التحتية والأمن الغذائي والصحّة).
ومِن على سُلّم الطائرة التي أقلّته إلى الإمارات، ركّز بينت، في كلمة ألقاها، على «التهديد الإيراني»، وعلى «سُبُل مواجهة طهران»، لافتاً إلى أن زيارته لأبو ظبي تأتي «كي نضيف طبقةً أخرى إلى العلاقة المميّزة بين كلتا الدولتين في سبيل تحقيق النمو والأمن لكلا الشعبين»، مثنياً، في الوقت ذاته، على قرار «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» الذي قال إنه «ينصّ بوضوح على أن إيران تواصل اللعب، وكذلك التخفّي والاختباء» حين يتعلّق الأمر ببرنامجها النووي. وكما هي العادة، اقتصرت التصريحات والتعليقات الإماراتية على العلاقات الاقتصادية والتنموية والاستثمارات المشتركة، مبتعدةً إلى حدٍّ لافت، عن الإشارة إلى إيران.
مع ذلك، فإن الزيارة تستأهل محاولة توضيح أبعادها:
- أوّلاً: لا خلاف على أن إيران تُعدّ، من ناحية النظام الإماراتي، تهديداً يستدعي من أبو ظبي العمل على تقليصه ما أمكن، للحؤول دون تفعيله. تقليص هذا التهديد أو دفع الإيرانيين إلى عدم تفعيله، هو عبر «تملّق» طهران أوّلاً، والالتزام أمامها بأن الإمارات ليست ولن تكون محلّاً للتآمر عليها أو للإضرار الأمني بها، على رغم التماهي الإماراتي مع مصالح الولايات المتحدة وإرادتها، لضمان تثبيت الطبقة الحاكمة في هذا البلد.
ثانياً: لا خلاف أيضاً على أن إسرائيل ترى في إيران تهديداً استراتيجياً، أو «تهديداً وجودياً»، وفق تعبيرات عبرية. وإسرائيل، كما غيرها من «الشركاء»، تعمل على الحدّ من أو تقليص، أو حتى اجتثاث، التهديد الإيراني. ويجري تفعيل هذا المسعى عبر أساليب متعدّدة، من بينها، بطبيعة الحال، تلقُّف أيّ فرصة للإضرار بإيران. وعلى هذه الخلفية، تُلاقي تل أبيب اليد الإماراتية، وتعمل على الاستثمار فيها ما أمكن في مواجهة إيران. هل تصل إلى نتيجة معتدّ بها؟ الإجابة ليست يقينية، وإن كانت تميل إلى السلبية، علماً بأن أصل العلاقات بين العدو وعواصم الخليج هو في ذاته مفسدة استراتيجية بالنسبة إلى طهران.
لإيران اليد الطولى في الخليج، نسبة وقياساً بما لدى الخليجيين أنفسهم


ثالثاً: على هذه الخلفية، يمكن القول إن الجانبين، كما يروّجان، صادقان. فهذه الزيارة، وغيرها من الزيارات السابقة واللاحقة، ومن بينها العلني والسرّي، وعلى المستوى الأعلى أو المتوسط أو حتى الأدنى، تهدف إلى تحقيق مصالح مختلفة، وإن كانت المصالح الأمنية، في كثير من أوجهها، مشتركة. لكن الاتفاق الأمني، أو الشراكة الأمنية المباشرة الموجّهة ضدّ إيران والتي تهدف إلى تطويقها وحصارها، ستكون محكومة بسقوف، يصعب على دول الخليج، تحديداً، تجاوزها.
رابعاً: في الوقت نفسه، فإن زيارة بينت، والتي استمرّت عدّة ساعات، وأريد لها أن تحتلّ الشاشات في ساعات الذروة الإعلامية في تل أبيب، مع تغطية محدودة نسبياً في الإمارات، هي زيارة لا تغيّر شيئاً جوهرياً في المعادلات، وليست خطوة في إطار تغييرٍ ما يُرسم للمنطقة، وإن أراد البعض أن يربط بينها وبين أزمة المفاوضات النووية.
خامساً: لدى بينت، كما كان لدى بنيامين نتنياهو من قَبله، «تعطُّش» إلى تظهير إنجازات يمكن أن تفيده في سجالات الداخل والخصومات السياسية في مرحلة باتت فيها حكومته على وشك السقوط، علماً بأن في الإمكان القول إنها سقطت، ولكن ذلك لم يُعلن بعد. لذا، فإن الزيارة التي تأتي في سياق تعزيز العلاقات بين الجانبين، هي في مصلحة بينت الشخصية، وهو ما ظهر بوضوح من خلال تصريحات حاشيته، وتعليقات إعلامية «موالية» نسبياً له، مع تشديد مصادره على «إيران والإيرانيين والخطر الإيراني»، كعلّة للقائه بابن زايد.
هناك مساعٍ ما زالت، حتى الآن، نظرية، تهدف إلى تشكيل حلف دفاعي من نوع خاصّ، هو «إنذاري» في كينونته، يسعى إليه الجانب الأميركي، مدعوماً من الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الكونغرس، وهو تأمين مظلّة إنذار دفاعي لإسرائيل، عبر محطّات رادارية تُنشر في عدد من دول المنطقة. واللافت أن العراق من بين هذه الدول الستّ، على رغم أن قوانينه الجديدة حرّمت التطبيع مع إسرائيل. ولا يعني ما تقدَّم أن الدول الخليجية ستكون مستعدّة «لكسر الجرّة» مع الجانب الإيراني وتشكيل حلف «ناتو» إقليمي مع إسرائيل، من أهدافه، وربّما هدفه الوحيد، الإضرار بإيران. في المعادلات، وتحديداً بين الدول، لا تكفي إرادة طرف واحد أو أطراف متماهين لتحديد الواقع ووجهته؛ إذ تُنسج المعادلات ويحافَظ عليها أو تمتنع وتتشوّش، وفقاً أيضاً لإرادة الطرف الآخر، أي إيران التي لها اليد الطولى في الخليج، نسبة وقياساً بما لدى الخليجيين أنفسهم.