بدأ العدّ العكْسي للانتخابات الرئاسية التركية، في ظلّ احتدام في المشهد السياسي الذي لا يُستبعد أن يشهد تحوّلات إضافية في الفترة الفاصلة عن الاستحقاق، والتي لا تقلّ عن سنة. وإذ يضع رجب طيب إردوغان كلّ ثقله للفوز في الانتخابات، بحيث جعل سياسة الدولة، ولا سيما في مجالَي الاقتصاد والسياسة الخارجية، منذ الآن، حملة انتخابية مفتوحة له، حتى يتلافى خسارة محتملة لن تعني نهاية مرّة لحياته السياسية، وإنّما ستُمثّل أيضاً هزيمة كبرى للمشروع الذي حمله إلى السلطة عام 2002، فإن ثمّة عوامل كثيرة تعمل ضدّه، على رأسها أن حركته «التصالحية» في الإقليم لم تؤتِ ثمارها إلى الآن على المستوى الاقتصادي، الذي لا تفتأ مؤشّراته تتهاوى يوماً بعد يوم. ومع ذلك، فإن إردوغان لن يوفّر أيّ سبيل لضمان احتفاظه بمنصبه، سواءً من خلال استغلال مهارته في نصب الأفخاخ للمعارضة، أو من طريق الاستثمار في التطوّرات العالمية، من أجل تسييلها «إنجازات» على الساحة السورية خصوصاً، تنعكس نقاطاً لصالحه في السباق الانتخابي
بعد عام من الآن، تنتخب تركيا رئيسها، ما يعني، عمليّاً، أن العدّ العكسي قد بدأ. ويبدو أن المعركة الرئاسية محصورة، حتى الساعة، بين اسم معروف هو الرئيس الحالي، زعيم حزب «العدالة والتنمية» رجب طيب إردوغان، وبين مرشَّح للمعارضة، وربّما آخر لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي. وتَجري الانتخابات على دورتَين؛ فإذا لم يحصل أيٌّ من المرشّحين على أكثر من 50% من الأصوات في الدورة الأولى، تذهب الانتخابات إلى دورة ثانية بين الأوّلَين الحاصلَين على أعلى نسبة من الأصوات، على أن يكون مَن يحصل على الغالبية النسبيّة، الرئيسَ المقبل لمدّة خمس سنوات. وقد تمّ تعديل الدستور، في عام 2017، بحيث يكون للفائز الحقّ في الترشّح مجدّداً لدورة ثانية، علماً أن إردوغان ربح الانتخابات الرئاسية في عام 2014، وهناك مَن يرى أنه لا يحقّ له الترشُّح مرّة جديدة، على اعتبار أن ولايته الحالية، والتي بدأت عام 2018، هي الثانية، وبالتالي الأخيرة. لكنّ مؤيّدي الرئيس الحالي يرَون أن التعديل الدستوري لعام 2017، يصفّر الاحتساب العددي، لتصبح الولاية الحالية للرئيس هي الأولى، ما يعني في حال فوزه، أنه يمكنه الترشّح لـ«ولاية ثانية». كما تَجري الانتخابات في ظلّ قرار تخفيض نسبة الفوز في البرلمان من 10% إلى 7%.
وتُبيّن استطلاعات الرأي المختلفة تراجعاً كبيراً في شعبيّة «العدالة والتنمية»، يصل إلى 10 نقاط على الأقلّ (من 42% إلى 30-32%، وربّما وفقاً لاستطلاع مؤسسة «كوندا»، إلى 28%). واعتمد الحزب الحاكم، في السنوات الأخيرة، على دعم حزب «الحركة القومية» اليمينيّ المتطرّف، للبقاء في السلطة. لكن نسبة الأصوات التي كان ينالها الأخير - وهي من 10% إلى 13% - هبطت إلى حوالى 7-8%، ما يعني أن حزبَي «تحالف الجمهور»، مجتمعَين، لن ينالا أكثر من 40% من الأصوات. في المقابل، تنقسم المعارضة إلى قسمَين: «تحالف الأمّة» من حزبَي «الشعب الجمهوري» و«الجيّد»، وتعطي استطلاعات الرأي الأوّل حوالى 28% والثاني 15-20%، أي إن مجموعهما يقارب الـ42-43%. وتُضاف إلى هذَين التحالفَين أحزاب «المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو، و«الديموقراطية والتقدّم» برئاسة علي باباجان، و«السعادة» برئاسة تيميل قره ملا أوغلو، الذين تعطي الاستطلاعات كلّاً منهم من واحد إلى اثنين في المئة. وقبل أربعة أشهر، التقى رؤساء هذه الأحزاب برئيسَي حزبَي «الشعب» و«الجيّد»، واتّفقوا على تشكيل جبهة معارضة تضمّهم جميعاً إلى جانب «الحزب الديموقراطي» - وهو حزب صغير جدّاً -، ما يعني أن أصوات «لقاء الستّة» تُقارب الـ50%. وفي حال اتّفاقهم على مرشّح مشترك وجدّي، والتزام أنصارهم بالتصويت له، فإن حظوظه ستكون مرتفعة للغاية، علماً أن «السُّداسيّ» يَعِد، أوّلاً، بتغيير النظام السياسي الرئاسي، والعودة إلى النظام «البرلماني القوي»، إلّا أن معضلة المرشّح المشترك لا تبدو سهلة الحلّ. وإذا كانت رئيسة «الجيّد»، مرال آقشينير، عازفة عن تولّي هذه المهمّة، فلأنها تريد أن تصبح رئيسة الحكومة المقبلة. أمّا زعيم «الشعب»، كمال كيليتشدار أوغلو، فإنّ كوْنه من أصل علوي وكردي يضعف حظوظه. ولذا، يتأرجح الخيار بين رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة منصور سافاش، من دون إغلاق باب المفاجآت، مع الإشارة إلى أن «السُّداسي» يسعى إلى أن لا يثير مرشّحه أيّ حساسيّة قوميّة للناخب الكردي، علّه يحصل منه على نسبة جيّدة تُضاعف حظوظه في الفوز.
يُنتظر أن يشهد خطاب إردوغان تجاه الغرب المزيد من التصعيد، في مسعاه لاكتساب صفة «البطل الوطني والقومي»


بالنسبة إلى «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، فهو يأمل في أن تَصدق استطلاعات الرأي، وينال أكثر من 10%، على رغم أن موقفه من انتخابات الرئاسة لا يزال غامضاً. ومع أن الحزب قريب من جبهة المعارضة، ويُعدّ من أبرز معارضي إردوغان، لكنه يؤكّد أنه لن يصوّت لأيّ مرشح آخر ما لم ينَلْ بعض المطالب الكردية، أو أنه سيرشّح، على الأرجح، رئيسه السابق المسجون صلاح الدين ديميرطاش، الذي سيحصل على حوالى 10% من الأصوات. وتشكّل نسبة أصوات الحزب الكردي «بيضة قبّان» الانتخابات الرئاسية؛ فإذا مال إلى مرشّح المعارضة المشترك، ضَمِن للأخير الفوز وبفارق كبير، وإلّا فإن حظوظ إردوغان سترتفع في حال ترَك «الشعوب» لناخبيه حرّية التصويت في الدورة الثانية. لذا، فإن إردوغان مدركٌ أهمية العامل الكردي في الانتخابات الرئاسية. وعلى هذه الخلفية، يلعب لعبة مزدوجة، قاعدتها الأولى التقرّب من الأكراد، بهدف القول إنه إذا كان ثمّة أحد مستعدّ للتصالح معهم فهو إردوغان فقط. وهنا، يحاول الرئيس تصدير انطباع بأن عبدالله أوجالان، زعيم «حزب العمّال الكردستاني» المسجون منذ عام 1999، يؤيّد خطوته للمصالحة مع الأكراد. أمّا القاعدة الثانية فهي مواصلة تشديد الخناق على الأكراد، بسَجن نوّابهم وعزل رؤساء بلدياتهم، وصولاً إلى حظر المحكمة الدستورية للحزب الكردي، بحيث يصل هذا الحزب أو بديله إلى الانتخابات منهكاً، فيحصد إردوغان جزءاً من قاعدته. ولا تقتصر الضغوط، في هذا المجال، على العنصر الكردي، بل إن القضاء التركي يستعدّ لفتح قضيّة في وجه أكرم إمام أوغلو، تمهيداً ربّما لإزاحته من رئاسة بلدية إسطنبول أو إضعافه، كما توجيه التهم المختلفة إلى نواب في «الشعب الجمهوري» بـ«التعاون مع الإرهاب الكردي».
لكن، مع الأخذ في الحسبان عامل الانهيار الاقتصادي الذي تشهده تركيا منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، فإن المعركة بالنسبة إلى إردوغان تبدو أكثر صعوبة بما لا يُقاس مع الاستحقاقات السابقة؛ فسعر صرف الليرة مقابل الدولار تراجع، منذ سنة وحتى الآن، أكثر من الضِّعف (من 7 ليرات في حزيران 2021، إلى 17 ليرة حالياً). كذلك، ارتفع سعر صفيحة المازوت من سبع إلى 28 ليرة، أي نحو دولارين، وهو ما انعكس على مجمل مناحي المعيشة، حيث بلغت نسبة التضخّم - وفق الأرقام الرسمية - 73%، فيما وصلت، في الواقع، إلى 160%. ولا تبدو سياسة المصالحات الخارجية مثمرة حتى الآن في معالجة تداعيات تلك الأزمة؛ ذلك أن خطوات «المصالحة» مع إسرائيل والإمارات والسعودية واجهت انتقادات داخلية كثيرة، كونها تتعارض مع ما كان إردوغان يطلقه من تهم لاذعة بحقّ مسؤولي هذه «الدول»، ومع ما كان يرفعه من شعارات «الدفاع عن الديموقراطية» و«حقوق الشعوب»... لكنّ الرئيس كان مستعدّاً للتخلّي عن كلّ شعاراته من أجل فتح الباب أمام ضخّ أموال الاستثمارات الخارجية في الاقتصاد وتحسين الحالة المعيشية للناس، فَجَرت الرياح بما لا تشتهي سفن إردوغان. وبعدما تحسّن سعر صرف الليرة إثر زيارة ولي عهد أبو ظبي (حينها)، محمد بن زايد، لتركيا في كانون الأول الماضي، عاد ليهوي، أمس، إلى مستوى قياسي أمام الدولار، بلغ أكثر من 17 ليرة ونصف ليرة.
أمر آخر ينعكس سلباً على إردوغان، وهو اللهجة المنفّرة التي اعتاد، في السنوات الأخيرة، على استخدامها. لكن ما تفوّه به أمام اجتماع نواب حزبه، في مطلع حزيران الجاري، فاق كلّ التوقعات. فبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لـ«انتفاضة غيزي»، كرّر إردوغان اتّهام الذين تظاهروا آنذاك بـ«الرُّعاع»، وبأنهم «دخلوا بأحذيتهم الجوامع، وشربوا البيرة داخلها». وإلى أبعد من ذلك ذهب، بوصْفه النساء اللواتي شاركْن في الانتفاضة بأنهن «مومسات»، وهو الأمر الذي فجّر غضباً عاماً ونسائياً على رئيس الجمهورية. وما فاقم المشكلة أن إردوغان الذي استخدم تلك الكلمة مرّتَين وليس مرّة واحدة، لم يتراجع عنها ولم يعتذر.
وبين هذا وذاك، يُنتظر أن يشهد خطاب إردوغان تجاه الغرب المزيد من التصعيد، في مسعاه لاكتساب صفة «البطل الوطني والقومي». ومن هنا، يأتي التشدّد في الموقف من دخول السويد وفنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي»، وإظهار نفسه على أنه «يركّع» الدول الإسكندنافية. على أنه في حال عدم التوصُّل إلى صفقة مع أكراد تركيا، فإن الخطاب القومي لا يستقيم إلّا بالظهور بمظهر «فاتح كوباني»، واعتبار «تنظيف» المنطقة في شمال سوريا من العناصر الكردية «مسألة بقاء» بالنسبة إلى تركيا. ويكتمل المشهد بالظهور بمظهر «بطل السلام»، من خلال الوساطة التي يقودها بين روسيا وأوكرانيا.