لندن | ارتفعت حدّة الغضب الشعبي في سريلانكا مع تعمّق الأزمة الاقتصادية هناك، حيث لم تَعُد غالبية الشوارع تحت سيطرة السلطات، وفي بعض المناطق اختفى وجود الشرطة كلّياً، بينما أضرم العمّال الغاضبون النار في مكاتب الرئيس جوتابايا راجاباكسا ومنازل أتباعه. وفي ظلّ شروع الحكومة بمحادثات مع «صندوق النقد الدولي» بشأن خطّة إنقاذ بقيمة 4 مليارات دولار، فإن جبلاً من الديون المتراكمة التي لن يمكن الوفاء بها، والتضخّم العالمي في أسعار الغذاء والوقود بسبب الحرب الأوكرانية، سيجعلان من ممارسة الحياة اليومية أمراً مستحيلاً بالنسبة إلى قطاعات متزايدة من المواطنين
بالنسبة إلى المواطنين السريلانكيين الذين كانوا يتمتّعون حتى وقت قريب ببعضٍ من أعلى مستويات المعيشة في جنوب آسيا، وبمعدّل دخل للفرد يبلغ ضِعْف ما يحصل عليه جيرانهم الهنود، فإن انتظار الطوابير الممتدّة لساعات أمام محطّات الوقود للحصول على الكيروسين، لم يكن بالأمر المألوف قبل بضعة أشهر فقط. لكنّ الجميع في هذا البلد الصغير ينتظر هذه الأيّام في أجواء من الرطوبة والحرّ الشديدَين للحصول على حصّة من بضع ليترات من الكيروسين الذي يُستخدم لتحضير الطعام والإضاءة في المنازل أثناء فترات انقطاع التيار الكهربائي الطويلة - نتيجة نقص توريد الوقود إلى محطّات توليد الطاقة الحرارية -. وفي كثير من الأحياء، تَنفد كمّيات الكيروسين سريعاً، لكنّ الناس يستمرّون في الانتظار أمام المحطّات، لعلّهم يكونون محظوظين وتصل شاحنة وقود أخرى في اليوم التالي. وتعاني سريلانكا (22 مليون نسمة) من أسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلالها عن الحُكم الاستعماري البريطاني عام 1948. ومنذ عدّة أشهر، بدأت تَظهر إرهاصات نقص شديد في البنزين والديزل والكيروسين والغاز والأغذية، واضطرّت المستشفيات إلى تأجيل العمليات الجراحية وتقليص خدماتها، وارتفعت أسعار الخدمات والأدوية والنقل بشكل كبير، ولا سيّما في ظلّ ارتدادات الحرب الاقتصادية التي تشنّها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيّون على روسيا، والتي تسبّبت بتضخّم عالمي وارتفاعات قياسية في أسعار خدمة فوائد الديون. ولعلّه من سوء حظّ السريلانكيين بالذات أن روسيا وأوكرانيا بالذات كانتا أوّل وثالث أكبر الأسواق السياحية للبلاد، وأن روسيا أيضاً ثاني أكبر مشترٍ للشاي السيلاني، وهو مادّة التصدير الرئيسة للجزيرة.
ويلقي قسم كبير من السريلانكيين باللّوم على الحكومة التي يقودها الرئيس جوتابايا راجاباكسا، شقيق الرئيس السريلانكي السابق ماهيندا راجاباكسا، الذي كان يشغل حتى وقت قريب منصب رئيس الوزراء. وقد تصاعدت حدّة الغضب الشعبي في الأسابيع الأخيرة في أعقاب هجمات على محتجّين مناهضين للحكومة استدعت فرض حظر تجوّل مؤّقت من قِبَل الجيش. ويقاتل راجاباكسا من أجل بقائه، بعد استقالة شقيقه ماهيندا - رجل سريلانكا القويّ - من منصبه أخيراً. ويكافح الرئيس لتشكيل حكومة جديدة، مع تولّي رانيل ويكريميسينغي، رئيس الوزراء الجديد، منصب وزير المالية أيضاً، بعد أن ظلّ المنصب شاغراً لأكثر من أسبوعَين. وتخلّفت سريلانكا، هذا الشهر، عن سداد قروضها الخارجية، كما لم تسدّد مدفوعات الفائدة على سندات سيادية بقيمة 1.25 مليار دولار، وهي أوّل دولة في آسيا والمحيط الهادئ تفعل ذلك منذ أكثر من عقدَين، وفقاً لبيانات وكالات التصنيف الائتماني. ويصل إجمالي الدّيْن الخارجي للبلاد إلى أكثر من 50 مليار دولار، يستحقّ مليار دولار منها للدفع خلال أقلّ من شهرين. وسجّلت البلاد أسوأ تضخّم في آسيا (نحو 30%) في نيسان، وانخفضت قيمة العملة المحلّية إلى النصف تقريباً منذ تعويمها في آذار الماضي. وتقول الحكومة إن احتياطاتها النقدية نفدت تقريباً، كما أرصدتها الاستراتيجية من الوقود، في ما ينذر بتحوّل الجزيرة إلى «دولة فاشلة». ويجادل بعض المراقبين بأن أزمة سريلانكا نتاجٌ لتقاطع إرث الاستعمار الغربي مع أداء نخب فاسدة - من بينها عائلة راجاباكسا الواسعة النفوذ - اتّسمت ممارستها للسلطة بسوء الإدارة والزبائنية والارتهان للأجنبي، مع سياسات الإقراض الإغراقي غير المسؤول من جانب الدول الكبرى.
تسعى الحكومة، الآن، جاهدة للحصول على مساعدة عاجلة من «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي»


وكانت سريلانكا قد تبنّت نموذجاً ليبرالياً لبناء اقتصاد جديد بعد نهاية حرب أهلية مدمّرة بين الأكثرية السنهالية وأقلّية التاميل، استمرّت 26 عاماً وذهب ضحيّتها أكثر من 80 ألف مدنيّ على الأقلّ، قبل أن تنتهي في عام 2009 (كان الرئيس الحالي وقتها وزيراً للدفاع). وحاولت حكومات نخبوية تديرها سلالة راجاباكسا التأسيس لقصّة نجاح اقتصادي آسيوي آخر عبر اقتراض مكثّف. وقد تسبّب تدفّق المليارات الناتجة من عمليات الاستدانة، على الجزيرة، بتحقيق نموّ سنوي استثنائي للاقتصاد، وصل في بعض السنوات إلى 9%، وتحسّنت حياة الطبقة الوسطى تحسناً ملحوظاً بفضل الخدمات الاجتماعية القوية مثل الرعاية الصحية والتعليم، وامتلكت النخبة الثقة للانخراط في «مبادرة الحزام والطريق» الصينية. لكنّ الحقيقة - كما هو الحال في غير بلد من العالم الثالث - أن الحكومات كانت تستدين بأكثر من قدرة الدولة على السداد، فيما تسرّب جزء كبير من الأموال إلى جيوب المتنفّذين من العرقيّة السنهالية، مع تفشّي الفساد في الإدارات العامّة. كما أن النموّ الاقتصادي تركّز في قطاعات غير منتجة تعتمد أساساً على الخدمات والسياحة - والتي تعرّضت لضربة قاصمة خلال مرحلة تفشّي وباء «كوفيد 19» - على نحو تسبّب بتشوّهات بنيوية واختلالات اجتماعية عميقة، مع أن البلاد تتمتّع بموارد طبيعية غنية، وأراضٍ خصبة، وموقع استراتيجي استثنائي بالقرب من العديد من ممرّات الشحن الأكثر ازدحاماً في العالم.
وتسعى الحكومة، الآن، جاهدة للحصول على مساعدة عاجلة من «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» وغيرهما. لكنّ هذه المؤسّسات، وعلى رغم قدرتها على تخفيف الألم على المدى القصير، ستُلزم البلاد بالخضوع لبرامج «التكيّف الهيكلي»، والتي تعني خصخصة أصول الدولة بالجملة، ما سيترك اقتصادها بأكمله وطرائق عيش مواطنيها تحت رحمة تقلّبات السوق العالمية ورغبات رؤوس المال. وقد حذّرت عدّة منظّمات دولية من أن الإصلاحات التي من المرجّح أن يطالب بها الصندوق، مثل إلغاء التخفيضات الضريبية التي فرضتها الحكومة في عام 2019، وتقليص دعم الطاقة، ستؤدي حتماً إلى تفاقم المعاناة من دون توفير حماية كافية للسكّان الفقراء. وفوق ذلك كلّه، فإن الجزيرة ستصبح حتماً ساحة للمناورات الجيوسياسيّة بين كلّ من الهند والصين اللتين استخدمتا مزيجاً من الائتمان السهل لحكومة كولومبو والضغوط الدبلوماسية لمدّ نفوذهما. ويتّهم مراقبون غربيون، الصين، باستخدام مشاريع «مبادرة الحزام والطريق» لتوريط سريلانكا في فخّ ديون ترهن مقدّرات البلاد بيد بكين، وهو ما تنفيه الأخيرة. كما قدّمت الهند تسهيلات بما يصل إلى 3.5 مليارات دولار. ومن غير الواضح أيضاً ما إذا كانت القُروض الخارجية ستأتي بالسرعة اللازمة لمنع اهتزاز سياسي وأمني طويل المدى في الجزيرة. ويتظاهر الآلاف من السريلانكيين بشكل يومي للمطالبة برحيل الحكومة من دون قيد أو شرط. وتبدأ الاحتجاجات بشكل سلمي، لكنها كثيراً ما تنتهي إلى العنف، وتتوسّع لتشمل إلى فقراء البلاد المزيد من منسوبي الطبقة الوسطى من الموظّفين والمعلّمين والعاملين في الموانئ، وتتسّبب بإغلاق المدارس وتَعطّل حركة القطارات على نطاق واسع.