تواجه تركيا، مرّة جديدة، تحدِّياً يتّصل بخياراتها الاستراتيجية. وإذا كان تبنّي موقف «حيادي» نسبيّاً من الأزمة الأوكرانية «سهلاً» إلى حدٍّ ما، فإن الموقف من قضايا تتّصل بـ«حلف شمال الأطلسي» لن يكون بهذه البساطة، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بالأمن القومي الاستراتيجي لشريكتها، روسيا. تقف تركيا، اليوم، على حدّ السكين. فالسويد وفنلندا تقدَّمتا، فعلاً، بطلب الانضمام إلى «الناتو»، ووافقت كل الدول المنتمية إلى الحلف على هذا الطلب، إلّا تركيا التي أعلنت رفضها على لسان رئيسها، رجب طيب إردوغان. وفيما تربط أنقرة موافقتها، ظاهرياً، بشرْط وقْف استوكهولم وهلسنكي دعمهما لـ«حزب العمّال الكردستاني» وامتداده («حزب الاتحاد الديموقراطي»)، فإنّ التصريحات الرسمية التركية اللاحقة عكست «ليونةً» مبدئية، بقول إردوغان إن على الحلفاء أن «يتفهّموا الهواجس الأمنية» لبلاده. ويقتضي هذا «التفهُّم» بأن تقوم كل من السويد وفنلندا بتسليم العناصر الكردية القيادية، وأن تمنع نشاطات «الكردستاني» على أراضيها.إلّا أن الشرط التركي المتّصل بـ«الكردستاني»، يُعتبر «صغيراً»، وثمنه بخس، قياساً بالمكسب الاستراتيجي الذي سيحقّقه «الأطلسي». لهذا، ستواجه روسيا الموافقة التركية، في ما لو تحقَّقت، بعدم تسامح، إذ ستكون بمثابة «إسقاط طائرة 24 تشرين الثاني 2015» روسية ثانية لجهة التداعيات، فضلاً عن الشرخ الذي ستُحدثه في العلاقات بين البلدين يعيدها إلى ما يشبه النقطة الصفر، وليس أوّلها وقْف تدفُّق السيّاح الروس إلى تركيا.
في المقابل، فإن الثمن التركي «البخس» للموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى «الأطلسي»، قد تكون له تفسيراته المتعدّدة:
- أوّلاً: يريد إردوغان، في مقابل موافقته، تحصيل أثمان أعلى بكثير من وقف نشاط «الكردستاني»، مِن مِثل موافقة الحلف على دعم خطّته لإقامة مناطق آمنة في شمال سوريا، ليُسكِن فيها اللاجئين السوريين.
- ثانياً: وقف الضغوط الأميركية على الاقتصاد التركي الذي دخل مرحلة جديدة وخطيرة من الانهيار، مع وصول سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى أدنى مستوياته. وهذه النقطة قد تكون، بالنسبة إلى إردوغان، أهمّ من المناطق الآمنة، كونها تمسّ مباشرةً حظوظه في انتخابات الرئاسة التي ستجري بعد عام.
يُعتبر الشرط التركي المتّصل بـ«الكردستاني» «صغيراً»، قياساً بالمكسب الاستراتيجي الذي سيحقّقه «الأطلسي»


ويمكن تفسير الثمن التركي العلني البخس، بأن إردوغان يدرك أنه لن يستطيع الوقوف في وجه أيّ قرار أميركي صارم. وحتّى لا يرفع سقف الأثمان ومن ثمّ يتراجع ويَظهر على أنه خسر المناورة، فقد قدَّم مطالب «متواضعة» ليفاخر لاحقاً أمام جمهوره بأنه فرض شروطه، وليبرّر لروسيا أيضاً الشيء نفسه: المصالح الأمنية التركية المتعلقة بـ«التهديدات» الكردية قد تحقَّقت.
في هذا الإطار، يكتب علي سيرمين، في صحيفة «جمهورييت»، أن تركيا لن تستطيع الالتزام بقرارها استخدام «الفيتو» الذي يمنحه لها نظام «حلف شمال الأطلسي»، إذ يعتبر أن استخدامها هذا الحقّ «ضربٌ من الخيال». ويقول سيرمين إن أنقرة لم تستخدم ولا مرّة حقّ النقض على امتداد تاريخها في «الأطلسي». ويورد، في هذا السياق، حادثتين: الأولى عندما غزت قبرص في عهد بولنت أجاويد، عام 1974، وبادرت اليونان فجأةً إلى الانسحاب من الحلف بذريعة أنه لم يمنع القوات التركية من احتلال قبرص. لكنّ تركيا وافقت، في عهد كنعان إيفرين بعد انقلاب 12 أيلول 1980، على عودة اليونان إلى الحلف مجاناً. وهو «الخطأ» الذي قال إردوغان، إنه لن يكرّره اليوم. أما الحادثة الثانية فكانت في عهد إردوغان نفسه عام 2009، عندما طلبت الولايات المتحدة تعيين أندريس فوغ راسموسين، رئيس وزراء الدنمارك، أميناً عاماً للحلف. وإن اعترض الرئيس التركي على اعتبار أن راسموسين داعم قوي لـ«الكردستاني»، فهو رضخ بعدما فرضت الولايات المتحدة مرشّحها. ويرى سيرمين أن الوضع الحالي، يشبه ما حدث عام 2009، إذ إن ادّعاء إردوغان القدرة على استخدام «الفيتو»، «سيحوّله لاحقاً إلى أضحوكة». من جهته، يكتب أحمد طاش غيتيرين، في صحيفة «قرار»، أن تركيا تراهن على استخدام «الفيتو» ضدّ انضمام السويد وفنلندا إلى «الناتو»، لكنّ الولايات المتحدة ستتدخّل حتماً، «لأن هذا قرار أطلسي محسوم. وأميركا تعمل على تطويق روسيا أكثر فأكثر». ويقول الكاتب إنه حتى لو حُلَّت مشكلة انضمام البلدين، فإن مشكلات تركيا مع «الأطلسي» لا تنتهي، متسائلاً: «أليست كل معدّات قوات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا أميركية الصنع؟ أليست الدول الأطلسية التي يتواجد فيها حزب العمال الكردستاني كثيرة ولا يُتّخذ أيّ إجراء بحقّها؟ أليست هذه الدول ملجأً لجماعة فتح الله غولِن؟ ومَن يضمن أن السويد وفنلندا إذا لبّتا الشروط التركية، ألّا تعود أراضيهما من جديد مركزاً لنشاطات الكردستاني؟ هل تريد تركيا فعلاً منْع السويد وفنلندا من الانضمام إلى الأطلسي، أم تريد لفت النظر إلى مشكلاتنا الأخرى مع الحلف؟». وينهي طاش غيتيرين مقالته بالقول، إن «مشكلة إردوغان هي أنه يتّهم خصومه في تركيا بأنهم امتداد لحزب العمال الكردستاني. ماذا سيفعل بستة ملايين ناخب أعطوا أصواتهم لحزب الشعوب الديموقراطي (الكردي)». ويذهب الأستاذ السابق في جامعة إسطنبول، طلعت توروز، إلى التشكيك في العلاقة التركية - الأميركية، قائلاً: «الولايات المتحدة حليف لتركيا، ولكنها ليست شريكاً استراتيجياً. واشنطن تريد من تركيا أن تكون مثل السعودية: بلداً إسلامياً شرق أوسطياً محطماً، يلبّي ما تريده حتى لو اقتضى الأمر تقسيمها».