لم تَعُد الولايات المتحدة تخفي مدى انخراطها في الحرب الدائرة في أوكرانيا، التي باتت تشكِّل «خطّ الدفاع الأوّل» عن العالم الغربي في مواجهة روسيا. لكنّ العداء الأميركي لموسكو، والذي يفترض أن يكون قد تلاشى مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء زمن الثنائية القطبية، يعود دائماً ليظهر بأشكال مختلفة، تعبّر عن حاجة واشنطن الدائمة إلى تثبيت مكانتها في عالمٍ تتراجع فيه هيمنتها. يجلِّي ما سلف حدثان بارزان: يتمثّل الأوّل في إعلان رأس «البنتاغون»، لويد أوستن، اشتغال بلاده على «هزيمة روسيا وإضعافها»، فيما يحيي الثاني قانوناً من أيّام الحرب العالمية الثانية، وقّعه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بينما كانت روسيا تحتفل، أوّل من أمس، بذكرى الانتصار على النازية، وفيه فعّل آليةً لتسريع وتيرة تسليم السلاح لكييف، مقرّاً بذلك بأنّ حرباً تدور في قلْب أوروبا إنّما هي «حربنا» أوّلاً
خطت الولايات المتحدة خطوةً إضافية تعمِّق من انخراطها في الحرب الروسية ــــ الأوكرانية، بعد توقيع الرئيس جو بايدن على «قانون الإعارة والتأجير للدفاع عن الديموقراطية في أوكرانيا» Ukraine Democracy Defense Lend-Lease Act الذي يجيز تسريع وتيرة إيصال السلاح الأميركي إلى كييف، مفعّلاً بذلك آليّة يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية، كان الرئيس الأسبق، فرانكلين روزفلت، قد تبنّاها، في عام 1941، لـ«مساعدة أوروبا في مقاومة هتلر»، وتعطي الرئيس صلاحيات موسّعة لدعم جهود الحرب في هذه القارة. وقال بايدن إن القانون الذي «حظي بإجماع (الحزبَين) في الكونغرس (417 مقابل 10 في مجلس النواب)»، يهدف إلى مساعدة الأوكرانيين في «القتال دفاعاً عن بلادهم وديموقراطيتهم في وجه الحرب الوحشيّة التي يشنّها (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين»، مقرّاً بأن بلاده أنفقت مليارات الدولارات (3.8 مليارات منذ بدء الحرب) لدعم أوكرانيا، لكون «كلفة الرضوخ للعدوان أعلى». وأرجأ الرئيس الأميركي إصدار القانون إلى التاسع من أيّار (أوّل من أمس)، ليتزامن مع احتفال موسكو بالذكرى السابعة والسبعين للانتصار على ألمانيا النازية، موحياً بأن ما يدور من حربٍ بالوكالة في أوكرانيا، يضاهي بحجمه وأهميته أحداث الحرب الكبرى التي انتهت بانتصار «الحلفاء»، وبروز قطبَين متصارعَين على فرْض هيمنتهما ونفوذهما على العالم.
مشروع القانون الذي طرحه أعضاء ديموقراطيون وجمهوريون في مجلس الشيوخ، ليس إلّا تحديثاً لقانون صدر قبل 81 عاماً، وخُصِّص، في حينه، لمساعدة الحلفاء خلال أحداث الحرب العالمية الثانية. وبموجب «قانون الإعارة والتأجير» بنسخته الجديدة، سيصبح في مقدور الولايات المتحدة مدّ أوكرانيا بالسلاح بسرعة أكبر، إذ تعزّز هذه الآليّة سلطة الرئيس الأميركي في تسريع الاتفاقات مع كييف ودول أوروبا الشرقية. وبعد إقرار مجلس النواب مشروع القانون، في 28 نيسان الماضي، قالت رئيسته، نانسي بيلوسي، إن النسخة الأولى منه «قلبت مجرى الحرب العالمية»، مضيفةً إنه «في خطابه عن حال الاتحاد عام 1941، أوضح الرئيس روزفلت أن الديموقراطية نفسها كانت تتعرّض لتهديد خطير، ليس فقط في أوروبا، ولكن في جميع أنحاء العالم. ودعا الكونغرس إلى مدّ يد المساعدة إلى حلفائنا في الخارج: تعزيز دفاعاتهم حتى يتمكّنوا من هزيمة شرور الفاشية... غزو بوتين لأوكرانيا كان بمثابة صدى لذلك الفصل من التاريخ».
سلّطت الأسابيع الأخيرة الضوء على مدى انخراط الولايات المتحدة في الحرب الدائرة في أوكرانيا


سلّطت الأسابيع الأخيرة الضوء على مدى انخراط الولايات المتحدة في هذا الصراع؛ فبالإضافة إلى القانون الذي أُعيد إحياؤه بعد 81 عاماً، لتجاوز الحواجز البيروقراطية لجهة تسليم السلاح إلى أوكرانيا، اقترح الرئيس الأميركي دعم كييف بـ 33 مليار دولار إضافية على شكل «مساعدات عسكرية وإنسانية»، هي حزمة يخطّط الديموقراطيون في الكونغرس لزيادتها بمقدار سبعة مليارات دولار، على خلفية ضغوط الجمهوريين لتزخيم الإنفاق الدفاعي، كما أرسل السيدة الأولى، جيل بايدن، في زيارة سرّية، إلى منطقة الحرب، وقدّم معلومات استخبارية لمساعدة أوكرانيا على قتل عشرات الجنرالات الروس وإغراق الطراد «موسكفا»، وفق ما كشفته وسائل إعلام أميركية («نيويورك تايمز»، و«إن بي سي» الإخبارية). هذه التقارير، استدعت مسارعة الرئيس الأميركي إلى الاتصال بوزير الدفاع لويد أوستن، ومديرة الاستخبارات الوطنية أفريل هاينر، ومدير الـ«سي آي إيه» وليام بيرنز، لـ«تأديبهم»، بحسب ما أفاد مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية، «نيويورك تايمز». ويبدو أن التسريبات شكّلت «خطّاً أحمر» كان من الأفضل «تركه سرّاً وعدم الكشف عنه، تجنّباً لاستفزاز الرئيس الروسي»، تقول الصحيفة.
منذ بدء الحرب، سعت الإدارة الأميركية إلى رسم «خطوط حمر»، وتحديد الأسلحة التي يمكن وصفها بأنها «دفاعية»، وأيّ منها يمكن اعتباره «هجومياً»، وبالتالي ينبغي تجنّب تسليمه إلى كييف. لكن الخطّ هذا تبدّل في الأسابيع الأخيرة، مع قيام الإدارة الأميركية بشحن المزيد من المعدّات العسكرية المتطوّرة، والتعبير بشكل أكثر صراحةً عن طموحاتها ليس فقط لمساعدة الأوكرانيين، ولكن لـ«هزيمة روسيا وحتى إضعافها»، على حدّ تعبير وزير الدفاع الأميركي أخيراً، الذي قال: «نريد أن نرى روسيا ضعيفة إلى درجة تمنعها من تكرار ما فعلته في أوكرانيا مرّة أخرى»، فيما شدّدت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، خلال رحلتها إلى كييف، على أن أميركا «ستقف إلى جانب أوكرانيا حتى تحقيق النصر»، وهو ما عاد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وكرّره، حين رأى أن تبنّي القانون يشكّل «مرحلة تاريخية»، وأنه «مقتنع بأننّا سنربح معاً من جديد. وسندافع عن الديموقراطية في أوكرانيا وفي أوروبا، كما حصل قبل 77 عاماً».
وعلى رغم تماهي الحلفاء الأوروبيين مع الموقف الأميركي من الحرب الدائرة في أوكرانيا، إلّا أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعا، أمام البرلمان الأوروبي، إلى عدم «إذلال» روسيا لأن «غداً سيكون هناك سلام يجب أن نبنيه»، وبدلاً من انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي، وهي عملية تستغرق «عقوداً»، اقترح إنشاء «منظّمة سياسية أوروبية» لضمّ أوكرانيا خصوصاً، إضافةً إلى «الأمم الأوروبية الديموقراطية التي تؤمِن بقيمنا الأساسية». وأكد ماكرون أن بلاده ستستمرّ في دعم كييف، والتنسيق لفرض عقوبات جديدة على موسكو، وتلافي عودة الحرب إلى القارة الأوروبية، مبدياً أمله بأن تكون أوروبا مستقبلاً أكثر قوّة أمام التحديات التي قد تواجهها. من جهته، أعرب المستشار الألماني، أولاف شولتز، عن أمل بلاده بأن تُستأنف المفاوضات بين البلدين بأسرع ما يمكن، وأن تصل إلى نتائج إيجابية، مشدّداً على ضرورة تحقيق وقف لإطلاق النار في أوكرانيا التي تقف ألمانيا إلى جانبها بلا هوادة، على حدّ تعبيره.
(الأخبار)