في خضمّ الأزمة الأوكرانية وانشغالات تركيا بتحسين علاقاتها مع بعض الدول الإقليمية، تشهد الساحة التركية العديد من التطوّرات المهمّة التي حجبتها الضوضاء الخارجية. ومن ذلك حدثٌ داخليٌّ كانت له أصداء خارجية واسعة، وهو الحُكم النهائي بخصوص الأحداث التي شهدتها حديقة غيزي في إسطنبول، عام 2013، والذي صدر الإثنين الماضي، وولّد مفاجأة ثقيلة. وكانت هذه الأحداث قد وقعت على امتداد أكثر من شهر، ابتداءً من آخر شهر أيار وصولاً إلى أواخر شهر حزيران، حينما اعتصم في الحديقة المذكورة وساحة تقسيم المحاذية لها، الآلاف من الطلّاب والمحامين والمهندسين والأطباء والنقابات، احتجاجاً على سياسات «حزب العدالة والتنمية»، لكن الشرطة نجحت، في النهاية، في تفريق المحتجّين، وفضّ الاعتصام بالقوة، كما اعتقلت المئات إثر ذلك. وامتدّت المحاكمات لسنوات، إلى أن صدر القرار النهائي قبل أيام، حيث حُكم على رجل الأعمال، عثمان كافالا، المُعتقل منذ عام 2017، بالمؤبّد، وعلى سبعة متّهمين آخرين بالسجن 18 عاماً. وجاء هذا بعدما كانت الدول الغربية قد أثارت زوبعة سياسية، في نهاية تشرين الأول الماضي، حين طالب سفراء عشر دول، بينها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، بإطلاق سراح كافالا، واعتبروا المحاكمة سياسية. وفي المقابل، هدّد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بطرد السفراء، معتبراً بيانهم تدخّلاً في شأن سيادي تركي. ثمّ انتهت أزمة السفراء بما يشبه الاعتذار من قِبَلهم. للوهلة الأولى، ساد ظنٌّ بأن الأزمة الأوكرانية، وبدء تحسُّن العلاقات التركية مع الغرب والولايات المتحدة، سوف يتركان انعكاساً جيّداً قد يتمثّل في إطلاق سراح كافالا. إلّا أن الحُكم الأخير عليه أصاب الغرب بصدمة عبّر عنها المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، بقوله إن الولايات المتحدة تشعر «بخيبة أمل وبقلق شديدَين»، واصفاً القرار بالسياسي، داعياً إلى احترام حرّيات كلّ الأتراك. كذلك، دانت فرنسا الحُكم، ودعا بيان وزارة الخارجية إلى الإفراج الفوري عن كافالا. من جهته، لم يتأخّر عثمان في الردّ على على القرار، فقال إنه «لو كان بيدهم خيطٌ لكانوا شنقوني». وأضاف أنه بعد كلّ سنوات الاعتقال، كان يَتوقّع قراراً مشابهاً، لكنه لم يكن يتوقّع أن يكون بهذه الشدّة، على اعتبار أن الحُكم بالمؤبّد والأشغال الشاقّة بديل من الإعدام. كما أشار إلى أن قضاة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تمعّنوا في دراسة القضية، ولم يجدوا ما يبرّر مثل هذا الحكم، مضيفاً أن «اتّهامي بالتجسّس تنقصه الدلائل». وعلى الرغم من التداعيات المحتملة للقرار على العلاقات التركية مع أوروبا والولايات المتحدة، إلّا أن الخطوة أثارت ارتياح إردوغان، الذي وصف كافالا بـ«سوروس تركيا»، معتبراً إيّاه «العقل المحرّض على أحداث غيزي».
أصدر 177 من كبار الممثّلين والمخرجين بياناً دانوا فيه قرارات المحكمة في قضية غيزي


وأثارت الأحكام ردود فعل واسعة في الداخل التركي، إلى حدّ أن الرئيس السابق، أحمد نجدت سيزير، المُقِلّ في الكلام منذ انتهاء ولايته عام 2007، خرج عن صمته، وقال إن «دموعي تُذرف على النظام القضائي المقتول في تركيا». وأضاف أن «دهس القانون في تركيا تحت الأقدام إلى هذا الحدّ، أمرٌ مؤسف». وفي السياق ذاته، أصدر 177 من كبار الممثّلين والمخرجين والعاملين في الحقل السينمائي، بياناً دانوا فيه قرارات المحكمة التي اعتبروها موجّهة لهم أيضاً. وجاء في البيان أن السينمائيين «مصمّمون على النضال من أجل إنشاء تركيا حرّة وعادلة. ولن نكون خائفين أو متفرّجين على اللاعدالة التي تعمل على إنشاء إمبراطورية الخوف». بدوره، لفت النائب والكاتب، مصطفى بالباي، في مقال في صحيفة «جمهورييات»، إلى أن «تركيا تقع اليوم في قبضة نظام قضائي متخلّف حتى عن العصور الوسطى». واعتبر أن السلطة الحاكمة تريد بثّ الخوف في نفوس الرأي العام، وأن «قرارات غيزي جزءٌ من هذا التخويف». وإذ رأى أن «تلك القرارات تعكس عمق مأزق القضاء في تركيا»، فقد عدّ «مثل هذا الحكم مطلوباً دولياً ليتمكّن إردوغان من إجراء صفقات مع الغرب، وخلق استقطاب داخلي». وفي صحيفة «قرار»، قال طه آقيول إنه «بات من الصعب التنبّؤ بشأن احتمالات اتخاذ القرار في القضاء التركي». وأشار إلى أن «هذه القضية ستذهب، في النهاية، إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وتبطَل قراراتها». وأضاف أنه «بعد تبرئة كافالا، عام 2020، من تُهم المشاركة في محاولة انقلاب عام 2016، اختُرعت له تهمة جديدة وهي التجسّس لحساب جهات خارجية»، متابعاً أن «مجلس القضاة والمدّعين العامّين فتح تحقيقاً في قرار إبراء كافالا من محاولة الانقلاب، ومن ثم بُرّئ من تهمة التجسّس، فعادوا إلى تهمة المشاركة في الانقلاب». أمّا الكاتب سادات أرغين، فقد طرح في مقال في صحيفة «حرييات» المؤيّدة لإردوغان، علامات استفهام حول الحُكم، الذي يعكس، بحسبها «عدم عدالة الاتّهامات، ووجود انتهاك خطير للقوانين بمفعول رجعي».
في المقابل، دانت صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، الحملات الداخلية والخارجية على القضاء. وفي مقالة لتامر قرقماز، قالت إن الانتقادات تأتي من «نادي محبّي الغرب»، الذي أعلن التعبئة العامّة لإطلاق سراح كافالا. «لقد تجاوزوا حدّهم. وفي النهاية، لم يتمكّنوا من تحرير المجنّد كافالا»، أضاف قرقماز، الذي اعتبر أن «كافالا كان اسماً مهمّاً جدّاً للبورجوازية الكومبرادورية». وذكّر بأن «الرئيس العجوز جو بايدن كان قد زار تركيا عندما كان نائباً للرئيس، قبل انقلاب 15 تموز 2016 بعدّة أشهر، والتقى مع البعض، ومن بينهم كافالا».