لندن | شنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هجوماً حادّاً على مارين لوبان، منافسته إلى الجولة النهائية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، متّهماً إيّاها بالخضوع لنفوذ موسكو، وبأنها "تعتمد على فلاديمير بوتين"، وغير قادرة على "الدفاع عن المصالح الفرنسية"، على خلفية قروض حزبية حصلت عليها من مصرف روسي مقرّب من الكرملين، بقيمة 9 ملايين يورو. وجاء ذلك في خضمّ مناظرة تلفزيونية مباشرة، استمرّت على مدى ساعتين ونصف ساعة أوّل من أمس، قبل وقت وجيز من موعد الاقتراع الذي يصادف بعد غدٍ الأحد. وشهدت المناظرة بين المرشَّحَين سجالات حادّة، حول مجموعة من الموضوعات، من بينها: العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وقضايا الطاقة، فيما حاصرت لوبان غريمها بقضيّة المعاشات التقاعدية التي تُقلِق العديد من الفرنسيين.وعلى الرغم من هجمة ماكرون على زعيمة "حزب الجبهة القومية" اليميني، فإن أداء لوبان كان أفضل بكثير، مقارنةً بمناظرة تلفزيونية مماثلة جمعت بينهما في نفس المرحلة من الحملة الانتخابية عام 2017، ومنحت، حينها، أفضليّة لماكرون. على أيّ حال، بدا أن أيّاً من طرفَي المناظرة الأحدث، لم يتلقَّ ضربة قاضية، ما يعني أن حسْم السباق نحو الإليزيه، هذه المرّة، غير ممكن قبل فرز آخر الأصوات. وتمنح استطلاعات الرأي، حتى الآن، تقدُّماً غير حاسم لماكرون، يُراوح بين 6 و10 نقاط مئوية.
وفرضت المواجهة الروسية - الغربية في أوكرانيا، نفسها على المناظرة، بعدما وضع ماكرون لوبان في موقف حرج، عندما خاطبها بعدوانية، قائلاً: "أنتِ تعتمدين على روسيا، وتعتمدين على السيّد بوتين"، في معرض إشارته إلى القرض الذي حصل عليه حزبها. كما اتهمها بالخضوع لرغبات الرئيس الروسي، بقوله لها: "عندما تتحدّثين إلى روسيا، فأنتِ لا تتحدّثين إلى زعيم أجنبي، بل تتحدّثين إلى مصرفك"، و"بمجرّد أن تكون هناك قرارات مهمّة وشجاعة يجب اتّخاذها، لا يمكنكِ الدفاع عن مصالح فرنسا بالفعل، لأن مصالحك مرتبطة بروسيا"، مشيراً إلى رفْض نواب حزبها في البرلمان الأوروبي، دعم المزيد من العقوبات ضدّ موسكو.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يهاجم فيها ماكرون غريمته العتيدة في شأن روسيا، منذ بدء الحرب في أوكرانيا في 24 شباط الماضي، لكنه، هذه المرّة، كان حادّاً بشكل غير مسبوق، وذهب إلى حدّ الربط بين رفْض لوبان إدانة ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ونجاحها في الحصول على القرض الروسي في عام 2015. وشكّلت علاقة لوبان بروسيا، نقطة ضعف في حملتها الانتخابية بسبب أجواء التهييج في الإعلام الغربي ضدّ موسكو، وذلك على رغم إدانتها الغزو، ومحاولتها النأي بنفسها عن تصريحاتها السابقة المؤيّدة لبوتين. وخلال المناظرة، أعربت لوبان عن "تضامنها وتعاطفها المطلَقَين" مع أوكرانيا، وانتقدت "الغزو الروسي"، واصفةً إيّاه بأنه "غير مقبول"، فيما برّرت مسألة التعامل مع المصرف الروسي بأنّها أُجبرت على السعي للحصول على قرض أجنبي، بسبب امتناع المصارف الفرنسية عن إقراض حزبها. ويعتبر ماكرون المرشح المفضّل للمصرفيين الفرنسيين، لكن أحداً لم يتساءل بالطبع كيف لا يزال ممكناً قانونياً وسياسياً في فرنسا، أن يتمّ تمويل الأحزاب من قِبَل كيانات مصرفية أجنبية، ناهيك عن دولة يعتبرها النظام الفرنسي معادية.
تمنح استطلاعات الرأي تقدُّماً غير حاسم لماكرون، يُراوح بين 6 و10 نقاط مئوية


في المقابل، اتّهمت لوبان ماكرون بتجسيد نموذج التجارة الحرّة للاتحاد الأوروبي، وهاجمته بسبب تقصيره في حمايته المزارعين والمستهلكين الفرنسيين من تدفّق المنتجات الغذائية من الخارج (الدجاج البرازيلي، ولحم البقر الكندي،...). وقالت لوبان: "أعتقد أن النموذج الاقتصادي القائم على التجارة الحرّة يقتل الكوكب"، مشيرة إلى أن التجارة المعولمة "مسؤولة عن غالبية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري". وأوضحت للمتابعين أنها لذلك "بَنَت مشروعها السياسي بأكمله حول المحلية، وللاستهلاك في أقرب مكان ممكن للإنتاج". وتريد لوبان استبعاد جميع المنتجات الغذائية الزراعية من أيّ اتفاقات للتجارة الحرّة، وهي مسألة تقلق الليبراليين في بروكسل. لكن نقطة هجوم لوبان الأقوى، كانت، بلا شكّ، انتقاداتها اللاذعة حول مشروع الرئيس الفرنسي لإصلاح نظام التقاعد، وهو ما اضطر ماكرون للدفاع عن قراره تأجيل سن التقاعد إلى الـ65، الذي لا يحظى بشعبية. وهذه مسألة حسّاسة بالنسبة إلى معظم الفرنسيين الذين يعيشون في دولة يحصل فيها جميع العاملين على معاش تقاعدي حكومي في نهاية حياتهم المهنية، فضلاً عن كونها قضيّة مهمّة لناخبي اليسار الفرنسي تحديداً (ربع مجموع الأصوات)، الذين يحاول المرشحان استقطابهما، بعدما فشل مرشحهم الأقوى جان لوك ميلينشون بالوصول إلى الجولة النهائية بفارق قليل. وقالت لوبان: "من الواضح أن مشروعي يختلف عن مشروع السيد ماكرون الذي يريد أن يجعل الجميع يعملون حتى سن 65 عاماً. إنه ظلم لا يطاق على الإطلاق".
واشتبك ماكرون ولوبان في شأن سياساتهما البيئية، إذ اتهم الأوّل غريمته بأنها "تشكّك في أزمة المناخ"، وردّت لوبان بأن ماكرون "منافق مناخي". ومن المرجّح أن يصعّب وصول لوبان - وفق برنامجها المعلن - من بقاء فرنسا على المسار المطلوب لتحقيق أهدافها بموجب "معاهدة باريس للمناخ"، والاتفاقات الأوروبية في هذا الخصوص. وحاول ماكرون، في المقابل، طرْح المزيد من الأفكار الخضراء، سعياً لجذب الناخبين اليساريين والمترددين. ومع ذلك، اتفق المرشحان، خلال المناظرة، على شيء واحد: تطوير مفاعلات جديدة للطاقة النووية للحدّ من اعتماد البلاد على واردات الطاقة.
وبدا جليّاً من المبارزة، التي وفق المراقبين انتهت إلى التعادل، أن النخب في فرنسا وأوروبا عموماً، تواجه بالفعل خيارات مصيرية في شأن تموضعها في النظام العالمي بين الاستمرار في صيغة الذوبان ضمن نموذج العولمة الأميركي أو استعادة زمام السيادة للمراكز الإقليمية، ولا سيما في ظلّ المواجهة في أوكرانيا التي عزّزت الاستقطاب بين التوجّهين، وتهدّد انعكاساتها مباشرة رفاه المواطن في الغرب. ومن هذه الزاوية حصراً، فإن المناظرة التي وصفها مرشّح اليسار، جان لوك ميلينشون، بـ"مضيعة تامّة للوقت"، كانت جديرة بالمتابعة لوضوح منطلقات أصحابها.