موسكو | يبدو واضحاً أن خطّة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تغيّرت بشكل جذري، إذ تُثار تساؤلات حول أسباب الانسحاب من محيط كييف - تشيرنيغوف المرتبط بإعادة انتشار تأخذ في الحسبان أولويّات المرحلة المقبلة في الدونباس وجنوب أوكرانيا وشمالها. وفيما لم تتمكّن روسيا من إنجاز كل ما كانت تصبو إليه منذ بدء عمليتها العسكرية قبل ما يزيد على شهر، إلّا أنها نفّذت المرحلة الأولى منها بنجاح. ويبدو أن موسكو راهنت، خطأً، على طبقة سياسية وعسكرية أوكرانية معيّنة كانت تأمل في أن تُمسك بزمام السلطة، وتصبح الجهة البديلة عن سلطة كييف، أملاً في التوصُّل إلى تفاهمات بين البلدين. إذ كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد توجّه، في خطاب له، إلى هذه الفئة، داعياً إيّاها إلى أخْذ المبادرة من فريق السلطة الحاكم، والتعاون مع القوات الروسية على تحقيق الاستقرار. لكن الرهان على هذه الفئة فشل، بعدما أحجمت عن إطاحة السلطة، لأسباب عدة، يأتي في مقدِّمها الأموال التي صرفتها الإدارة الأميركية والدول الغربية لمنع أيّ جهة أوكرانية من التعاون والتفاهم مع موسكو، والاستمرار في سياسة رفْع السقوف التفاوضية، والاستنزاف الميداني غير المبرَّر، وضخّ السلاح غير المسبوق، إضافة إلى سياسة الترهيب وتصفية الرموز الوطنية الأوكرانية المتقبّلة لفكرة التعاون مع روسيا، ومنهم عضو في الوفد الأوكراني المفاوض وشخصيات أمنية وعسكرية ومسؤولون في الإدارات المختلفة.إزاء ما تقدَّم، قرّرت القيادة الروسية تعديل الخطّة والتركيز في مرحلة العملية العسكرية المقبلة على ثلاثة محاور: الجغرافيا الأقرب وهي الدونباس وما يؤمّن حماية مستدامة لهذه المنطقة وكامل الحدود الغربية لروسيا، بداية من الشمال، حيث تمتدّ منطقة النفوذ الروسية الحالية من حدود مقاطعة تشيرنيغوف شمال العاصمة كييف عند محاذاة الحدود البيلاروسية مع أوكرانيا، مروراً بمساحات ضمن نيجين وكونوتوب وسومي وصولاً إلى خاركيف. وانسحبت القوات الروسية، عملياً، من منطقة تشيرنيغوف، بما فيها تشيرنوبيل، التي تقع ضمنها المحطّة الكهروذرية، وهي تُبقي على نقاط ارتكاز في محاذاة الحدود البيلاروسية شمالاً، وشمال غربي مدينة تشيرنيغوف وفي محيط العاصمة. ويشير حجم تشكيلات القوات الروسية المنسحبة الكبير إلى أنها كانت فعلاً مستعدّة للسيطرة الكاملة على كييف. أما في الجنوب، فلا بدّ من السيطرة على كامل منطقة زباروجيا لتأمين مقاطعة خيرسون المتّصلة بشبه جزيرة القرم، إضافة إلى سواحل شمال البحر الأسود.
يتواصل المسار الديبلوماسي، في ظل ارتفاع في منسوب التفاؤل لدى الجانب الروسي


ومع بدء انتهاء عملية تطهير ماريوبول، توجّهت تشكيلات من القوات الروسية التي أنهت مهامّها هناك، لدعم الوحدات المقاتِلة على جبهة جنوب غربي الدونباس ومقاطعة زاباروجيا التي ما زالت معارك السيطرة عليها مستمرّة، كما أن القوات الروسية صدّت بنجاح كل محاولات تقدُّم القوات الأوكرانية من نيكولايف جنوباً، وقد بدأت فعلياً عملية السيطرة على بلدات ونقاط سكنية في ضواحي نيكولايف، في أعقاب السيطرة التامة على ضواحي خيرسون، وهو ما يؤشّر إلى نيّة لدى موسكو في الحفاظ على شريط آمن على طول سواحل البحر الأسود، من دون أوديسا. على هذه الخلفية، توقّع مراقبون بدء تشكُّل إدارات محلية في خيرسون ومناطق الجنوب المحاذية للدونباس، والواقعة تحت السيطرة الروسية.
في هذا الوقت، يتواصل المسار الديبلوماسي، في ظل ارتفاع في منسوب التفاؤل لدى الجانب الروسي. إذ أكد الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، يوم أمس، أن بوتين لم يرفض لقاء نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مشترطاً أن يتمخّض عن اللقاء نصّ اتفاق مكتوب، وليس مجموعة من الأفكار. وفي حين لا يزال من المبكر الحديث عن تحديد موعد لقاء يجمع الرجلين، يبدو أن أوكرانيا قبلت بوضع الحياد، فيما يؤكد رئيسها رفضه التنازل عن أيّ مساحة جغرافية، أي عدم الاعتراف بروسية القرم خصوصاً. وفي هذا السياق، قال رئيس الوفد الروسي المفاوض، فلاديمير ميدينسكي، إن «كييف أصبحت أكثر واقعية في مقاربتها لمسألة وضع أوكرانيا المحايد وغير النووي، لكن مشروع المعاهدة ليس جاهزاً بعد لعقد قمة بين رئيسَي البلدين». وأضاف: «في الواقع، القضايا المتَّفق عليها، وهي الوضع المحايد وغير المنحاز وغير النووي لأوكرانيا، ورفْض نشْر القوات الأجنبية والقواعد وأيّ أسلحة هجومية، ورفْض تطوير وإنتاج أسلحة الدمار الشامل، وإجراء التدريبات بمشاركة طائرات أجنبية فقط بإذن من الدول الضامنة (بما في ذلك روسيا)، وكذلك إنشاء نظام ضمانات أمنية دولية لأوكرانيا المحايدة». ولفت إلى أن العمل على نصّ المعاهدة على مستوى الخبراء ورؤساء الوفود قد تم عن بعد يومَي الجمعة والسبت الماضيين، على أن تُستأنف المفاوضات اليوم. وكان كبير المفاوضين الأوكرانيين، ديفيد أراخاميا، قد كشف، أول من أمس، أن موسكو وافقت «شفهياً» على مقترحات أوكرانية رئيسة، باستثناء قضية شبه جزيرة القرم.