موسكو | تتفاوت، من يوم إلى يوم، التقديرات بشأن مصير المفاوضات الروسية - الأوكرانية، والتي استؤنفت أمس في ظلّ سقف كلامي مرتفع من كلا طرفَيها. لكن الثابت إلى الآن، أن ثمّة تفاؤلاً روسياً بأن المفاوضات تُحرز تقدّماً، بمعزل عن ماهيته أو حجمه، وهو ما لم تغيّر فيه - للمفارقة - حادثة اختراق مروحيتَين أوكرانيتَين الأجواء الروسية، وقصفها مخازن وقود. وفي انتظار ما ستؤول إليه الجولة التفاوضية الجديدة، تُواصل موسكو، ميدانياً، التحشيد لحسم معركة دونباس، فيما تستمّر في عملية دبلوماسية مماثلة بهدف إنفاذ قرارها تعزيز التعامل بالروبل مع الدول الصديقة وغير الصديقة على السواء، وهو ما بدأ يؤتي ثماره بالفعل، مثيراً سخطاً وقلقاً أميركيَين
استؤنفت المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، أمس، عبر تقنية الفيديو، في ظلّ تشبّث كلّ طرف بمطالبه السياسية والأمنية. فبعد تأكيد كييف أنها «ستقاتل بشأن كلّ حبة تراب في البلاد»، في ما فُسّر على أنه إشارة إلى شبه جزيرة القرم ودونباس، أكد رئيس الوفد الروسي المفاوض، فلاديمير ميدينسكي، أن مواقف روسيا «بشأن القرم ودونباس لا تزال ثابتة». وعلى رغم هذا التباين، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من نيودلهي، إن المفاوضات تحرز تقدّماً، وبخاصة بشأن مسألتَي القرم ودونباس، وتخلّي كييف عن فكرة الانضمام إلى حلف «الناتو»، ووضعها غير النووي والحيادي. وفيما لفت لافروف إلى أنه ليست هناك أيّ خطط نهائية، ما يعني أن أيّ اتفاق لم يُنجز حتى الساعة، شدّد على أنه يجب أوّلاً إتمام صياغة الاتفاقات المبدئية التي جرى التوصّل إليها في الجولة الأخيرة من مفاوضات إسطنبول.
مسار المفاوضات كان مدار بحث في اتصال هاتفي بين الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث جدّد زيلينسكي التشديد على ضرورة حصول بلاده على ضمانات أمنية في أيّ اتفاق، فيما أعلن وزير الخارجية الأوكراني، دميتري كوليبا، أن بلاده تنتظر الردّ الروسي الرسمي على مقترحاتها، قائلاً إنه «لا توجد أيّ قوى أجنبية تضغط علينا في ما يتعلّق بالمفاوضات». بدوره، كشف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن بلاده تسعى لاستضافة اجتماع يضمّ الرئيسَين الروسي والأوكراني، معلِناً أن أنقرة تحاول «الوصول إلى نتيجة بشأن لوغانسك ودونباس من خلال التواصل مع الرئيسَين بوتين وزيلينسكي».
ميدانياً، يرى الخبراء العسكريون الروس أن ثمّة تغييرات جوهرية في المخطّط الأوّلي للعملية العسكرية في أوكرانيا، تتمثّل في تركيز الجهود على الاتجاهات الجنوبية، فيما يُطرح سؤال حول الخطّ الذي تنوي القوات الروسية بناء دفاعاتها عنده، لضمان حسم معركة الدونباس. وفيما تراجع الاهتمام بمعركتَي كييف وتشيرنيغوف، يلاحظ الخبراء تحرّكاً كثيفاً للآليات والمعدّات العسكرية الروسية باتجاه الحدود مع بيلاروسيا، وعودتها لعبور الحدود الأوكرانية باتجاه الجنوب، حيث المسرح الأساسي للمواجهات المقبلة. وفي منطقة سومي، يسجَّل تراجع الطرفين، الروسي والأوكراني، إلى مواقعهما الحدودية الدولية، في حين لا يزال المشهد في منطقة إيزيوم على حاله. أمّا في محيط محور غورلوفكا - كونونادا، فتستمرّ قوات دونيتسك الشعبية في قضم دفاعات القوات الأوكرانية، ببطء ولكن بثبات، بينما تتواصل المعارك في محيط نوفوسيولوفكا، التي من دون السيطرة عليها سيكون من الصعب تقدّم القوات الروسية في هذا الاتجاه الجنوبي.
وفي محاور مدينة ماريوبول المحاصرة، يجري تضييق الخناق على القوات الأوكرانية، التي لم تَعُد تسيطر سوى على 10% من مساحة المدينة، في وقت تستمرّ القوات الروسية في تصعيد ضغوطها في محيط خيرسون، حيث تدفع خطّ الجبهة شمالاً باتجاه نيقولايف، بشكل متدرّج ومستمرّ، وهي بدأت بالفعل، بعدما سيطرت على جميع النقاط السكنية والبلدات المحاذية لضواحي خيرسون، بالتعامل مع ضواحي نيقولايف. وبحسب الاستخبارات البريطانية، فإن الحشود الروسية في هذا الاتجاه، تضاعفت ثلاث مرات خلال الأسبوع الماضي، ما يؤشّر إلى نيّتها القيام بعمل كبير هناك.
في غضون ذلك، نفّذت مروحيتان أوكرانيتان عملية تسلّل على ارتفاعات منخفضة، واستهدفتا مستودعات للمشتقات النفطية في مدينة بيلغورود الروسية، ما أدى إلى اشتعال النيران في 8 خزانات وقود، بالقرب من خاركوف الأوكرانية. ويرجع خبراء نجاح المروحيتَين في تنفيذ هذه العملية، إلى طبيعة التضاريس الجغرافية الجبلية المساعِدة في عملية التخفّي عن الرادارات وأجهزة الرصد الروسية. كما أنه نظراً لكثافة الطيران المروحي الروسي في تلك المناطق، من الممكن أن تكون نقاط المراقبة الروسية قد أخطأت في تشخيص هويّة المروحيتَين واعتبرتهما روسيتَين، علماً أن تلافي هذه الخروقات الجوّية ممكن فقط باستخدام محطّة رصد رادارية طائرة أو تسيير دوريات مستمرّة للمقاتلات الروسية الاعتراضية، الأمر الذي لم يكن يُعمل به من قَبل. وعلّق المتحدّث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، على الحادثة، بأنه يتعيّن على الهيئات الأمنية والعسكرية تقييمها، مستبعداً أن يكون ما حصل خطوة هادفة لخلق ظروف مناسبة لاستمرار المفاوضات مع الجانب الأوكراني.
على صعيد آخر، دخل، أمس، رسمياً، حيّز التنفيذ، المرسوم المتعلّق بشأن تسديد ثمن الغاز الروسي لـ»الدول غير الصديقة» بالروبل. وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن «الروبل هو الخيار الأفضل والأكثر موثوقية بالنسبة لنا»، مستدركاً بأن القرار الأخير «من الممكن إلغاؤه إذا ما توافرت ظروف أخرى». لكن، إلى الآن، يبدو أن روسيا تتّجه، بالفعل، إلى تعزيز التعامل بالروبل والعملات المحلية مع العديد من الدول، ردّاً منها على العقوبات الغربية التي منعتها من الوصول إلى احتياطاتها في البنوك الأجنبية. ومن الهند، التي عزّزت روسيا العلاقات الاقتصادية معها أخيراً وخصوصاً في مجال الطاقة، أكد لافروف، خلال لقائه نظيره الهندي س. جيشنكار، أن بلاده تسعى لتعزيز العلاقة مع الأسواق الآسيوية لتقليل استخدام الدولار وتخطّي العقوبات التي وصفها بـ»غير الشرعية».
هذا التقارب الروسي الهندي كان محطّ استهداف من قِبَل الولايات المتحدة، التي تحاول الضغط على الدول التي لم تطبّق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. وقبيل المحادثات التي أجراها لافروف في الهند، قام المسؤول الأميركي من أصل هندي، داليب سينغ، وهو كبير مخطّطي العقوبات في واشنطن، بزيارة إلى نيودلهي حذر فيها من مغبّة مساعدة موسكو على تجاوز العقوبات. وقال سينغ إن بلاده تحرص على «ألّا تقوم الدول كافة، وخصوصاً حلفاءنا وشركاءنا، بوضع آلية تعزّز الروبل وتسعى لتقويض النظام المالي القائم على الدولار».
خيار عزل روسيا عبر العقوبات كان أيضاً مدار بحث في القمّة الأوروبية - الصينية التي انعقدت أمس في جوّ شديد التوتر، بحسب ما كشفت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين. ولفتت دير لاين إلى أن الاتحاد الأوروبي دعا بكين «إلى عدم التدخّل» لمساعدة روسيا على مواجهة تداعيات العقوبات الغربية، مشيرة إلى أن الاتحاد حذر من أن أيّ دعم لموسكو «سيشوّه سمعة» الصين في أوروبا. من جهته، قال رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، إن الدول الأوروبية دعت الصين إلى المساعدة في إنهاء الحرب في أوكرانيا، مضيفاً أن الاتحاد الأوروبي سيظلّ يقظاً تجاه أيّ محاولة لمساعدة روسيا. في المقابل، أكدت وزارة الخارجية الصينية أن بكين «تعارض الحروب البادرة والساخنة والانقسامات وترفض الانحياز» إلى أيّ طرف. وأعلنت أن المسؤولين الصينيين والأوروبيين «اتفقوا على العمل معاً لحفظ السلام والاستقرار والازدهار على مستوى العالم»، و»من أجل إقامة حوار حول أمن الطاقة والغذاء».