منذ بداية العام الجاري، كثّفت كوريا الشمالية، بشكل لافت، تجاربها الصاروخية التي وصلت، بعد تجربة الأسبوع الماضي، إلى عشر، اختبرت خلالها صواريخ باليستية فائقة السرعة، فضلاً عن صواريخ قصيرة ومتوسّطة وطويلة المدى. ووفق الإعلام الكوري الشمالي الرسمي، فإن هذه التجارب تندرج في إطار سياسة الردع النووي التي تعتمدها بيونغ يانغ، لكنّ الاختبار الأخير بدا مختلفاً عمّا سبقه على مستويَين: أوّلهما أن الإعلان عنه ظهر وكأنه فيلم هوليوودي مصوّر بدقة عالية؛ وثانيهما أن الصاروخ المختبَر فيه، «هواسونغ 17»، يتخطّى مداه 15000 كلم، وفق تقديرات حكومتَي كوريا الجنوبية واليابان. هذا التمايز، وقَبْله هذه الكثافة بعد خمس سنوات التي اتّسمت بهدوءٍ نسبي، دفعا إلى قراءة مختلفة للتجارب العسكرية الأحدث، خصوصاً في ظلّ الأحداث المتسارعة على الساحة الدولية، واستمرار غياب استراتيجية أميركية واضحة تجاه كوريا الشمالية. وعلى رغم تعدُّد القراءات، إلّا أن ثمّة إجماعاً وسط الخبراء على أن الاختبارات الأخيرة تتخطّى فكرة ردع المساعي الغربية لإسقاط النظام الحاكم في كوريا الشمالية، وأن الأخيرة تهدف من خلالها إلى استغلال ما يجري على الساحة الدولية، وتحديداً العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لـ«حجز مقعدٍ لها على خريطة القوى الإقليمية».وفي هذا الإطار، تقول الكاتبتان جيني تاون، وميشيل كاي، في مقال نُشر أخيراً في موقع «World Politics Review»، إن «السياق الأمني لهذه السلسلة من الاختبارات، يشير إلى وجود دوافع لدى الزعيم الكوري، كيم جونغ أون، لدخول الحلبة الدولية». وتعتبران أن تكثيف بيونغ يانغ اختباراتها الصاروخية، ينطوي على رسائل إلى الداخل والخارج؛ إذ يَخدم داخلياً مساعي النظام إلى تطوير أنظمة جديدة و/ أو معدَّلة لتحسين قدرات أسلحة الدمار الشامل، من أجل مواجهة الميزانيات الدفاعية المتضخّمة للجارة الكورية الجنوبية. كما أنه ينبئ بمحاولة كوريا الشمالية مواكبة دول أخرى، مثل الصين وروسيا، منخرطة بدورها في جهود التحديث والتوسُّع النووي الخاصة بها، فضلاً عن أن هذه الاختبارات تعكس التزام الزعيم الكوري بالأهداف التي حدّدها خلال المؤتمر الثامن لـ«الحزب الشيوعي» أوائل العام الماضي، وشملت: تحسين مدى الصواريخ ودقّتها وموثوقيتها؛ والسعي إلى الحصول على أسلحة نووية تكتيكية؛ وإطلاق أقمار اصطناعية للاستخبارات والمراقبة والاستطلاع أو ISR، والدخول السريع إلى عالم التفوّق في سرعة الصوت.
تسعى كوريا الشمالية إلى مواكبة دول أخرى منخرطة بدورها في جهود التحديث والتوسُّع النووي


وعلى المستوى الخارجي، يلفت التقرير إلى أن كوريا الشمالية «ليست الدولة الوحيدة التي تُجري بنشاط تجارب صاروخية في المنطقة، بل هي مجرّد جهة فاعلة واحدة تشارك في سباق تسلُّح قائم أصلاً». فروسيا والصين وكوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة، جميعها باتت في مراحل متقدّمة من تطوير صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت. وفي هذا السياق، تَذكر الكاتبتان أن سيول اختبرت وحدها، في أيلول الماضي، صاروخَين باليستييْن أُطلقا من غواصة، وصاروخ أرض-جو بعيد المدى، وآخر باليستياً «عالي القوّة» قادراً على حمل رأس حربي ثقيل، ومحرّك يعمل بالوقود الصلب مخصّص لمركبات الإطلاق إلى الفضاء، فضلاً عن صواريخ أسرع من الصوت مضادّة للسفن. وفي ما يخصّ الحرب الدائرة في أوكرانيا، تقدّر الكاتبتان أن بيونغ يانع تَنظر إلى ما يجري باعتباره «درساً للدول التي لا تمتلك أسلحة نووية لمواجهة خصوم أقوى مسلّحين نووياً»، لتَخلُصا إلى أن إقناع أيّ دولة بأن نزع السلاح النووي سيؤدّي إلى مستقبل أكثر إشراقاً، سيكون اقتراحاً بالغ الصعوبة، وسيتطلّب أكثر من مجرّد دعوات إلى إجراء محادثات.
وفي حين لا تزال المحادثات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية مُستبعدة في الوقت الراهن، إلّا أنه وفي ظلّ الخلاف بين القوى الكبرى، يُتوقّع أن تواصل بيونغ يانغ السعي إلى تحديث ترسانتها النووية، وفق ما تشير إليه وكالة «أسوشيتد برس»، نقلاً عن أستاذ دراسات كوريا الشمالية في جامعة «إيوا» في العاصمة الكورية الجنوبية، سيول، بارك وون جون، الذي يقول إن العدد الكبير للتجارب «يوضح تصميم كيم على ترسيخ مكانة كوريا الشمالية كقوّة نووية وانتزاع الامتيازات من واشنطن من موقع قوّة». مع هذا، يرى مراقبون أنه إذا ظلّ إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية هدفاً رئيساً للولايات المتحدة، فإن هذه الأخيرة ستجد نفسها أمام «حائطٍ مسدود». لذا، يقترح هؤلاء أن تعيد واشنطن التفكير في «نهجها التقليدي المتمثّل بمطالبة بيونغ يانغ بتقديم تنازلات جسيمة، من دون مقابل أميركي ملموس».