لندن | من بولندا، اختتم الرئيس الأميركي، جو بايدن، رحلة أوروبية تضمّنت حضوره عدّة قمم للحلفاء في العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث ألقى، في مشهد استعراضي أُعدّ بعناية، خطاباً مفعماً بالضجيج الأيديولوجي، ندّد فيه بشدّة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، واصفاً إياها بأنها جزء من معركة استمرّت عقوداً بين «الديموقراطية» و «الاستبداد». وبينما حاول مسؤولون أميركيون، لاحقاً، التخفيف من حدّة مقاطع من الخطاب بدت كأنّها تهديدات شخصية لفلاديمير بوتين، إلّا أنّها عكست توتّرات حقيقيّة داخل الإدارة الأميركية، إثر اتساع التصدّعات في الحلف المعادي لموسكو، بعدما بدا، بشكل متزايد، أن الحصار المالي والاقتصادي على روسيا يضرّ بالمحاصِرين أكثر من المحاصَرين
عجّت سماء مدينة بروكسل، قبل نهاية هذا الأسبوع، بأصوات طائرات المروحيات، والمواكب الرسمية، بعدما وصل إليها الرئيس الأميركي جو بايدن، والفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، والمستشار الألماني أولاف شولز، وغيرهم من الزعماء الغربيين، لحضور ماراثون من القمم الكبرى: جلسة خاصّة للمجلس الأوروبي، واجتماع مجلس «حلف شمال الأطلسي» على مستوى رؤساء الدول والحكومات، إضافة إلى قمّة طارئة لقادة دول «مجموعة السبع». وهيمنت الحرب في أوكرانيا على اللقاءات، التي بدت، إلى الجانب الاستعراضي منها، أقرب إلى محاولة أميركية لتعزيز وحدة الحلفاء الغربيين ضدّ روسيا، بعدما بدأت التصدّعات بالظهور في جدار حصار اقتصادي ومالي تريد واشنطن إحكامه حول موسكو.
وأمضى بايدن معظم الرحلة في بثّ دعاية مكثّفة ضدّ ما سمّاه «فظائع بوتين» في أوكرانيا؛ فوصف الرئيس الروسيّ بأنه «جزّار» و»مجرم حرب»، ومسؤول مباشرة عن الأضرار المدمّرة التي لحقت بمدن أوكرانيا وسكّانها. كما حثّ دول الغرب، ولا سيما تلك التي تتحفّظ على تبنّي كامل ترسانة العقوبات الأميركية، على مواصلة العمل لخنق الاقتصاد الروسي، مجدِّداً التأكيد على تعهّد الولايات المتحدّة بالدفاع عن حلفائها في «الناتو» ضدّ أيّ تهديد روسي محتمل.
وعلى الرغم من أن «حلف شمال الأطلسي» استبق لقاءات بروكسل بالإعلان عن تعظيم أعداد القوات المتأهّبة للقتال في ثمانٍ من دول شرق أوروبا، إلّا أن الإدارة الأميركية كانت واضحة في تجنّبها، العلني على الأقل، التصعيد عسكريّاً مع موسكو، والذي قال بايدن إنه «قد يؤدّي إلى حرب عالمية ثالثة». وفي مناقشات مغلقة في مقر «الناتو» في بروكسل مع قادة أكثر من 30 دولة، تعهّد الرئيس الأميركي، مراراً وتكراراً، بعدم إرسال قوات أميركية للقتال ضدّ روسيا، حتى في ظلّ مناشدات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، اليائسة للحصول على مساعدات عسكرية نوعيّة. وظلّ بايدن على موقفه المعارِض لاستخدام قدرات «الأطلسي» أو الطائرات المقاتِلة الأميركية، لفرض حظر طيران فوق المجال الجوي الأوكراني.
رأى البعض أنّ خطاب بايدن دعوة صريحة وغطاء لأطراف معيّنة لإطاحة الرئيس الروسي


ومن بروكسل، انتقل الرئيس الأميركي إلى بولندا، حيث ألقى، أول من أمس، في قلعة تاريخية كانت مقرّاً للملوك البولنديين ــــ وضمن مشهد استعراضي أُعدّ بعناية ــــ خطاباً مفعماً بالضجيج الأيديولوجي، استردّ فيه أنفاس الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي، مندّداً بشدّة بالعملية العسكرية في أوكرانيا، وواصفاً إياها بأنها جزءٌ من معركة استمرّت عقوداً بين «الديموقراطية» و»الاستبداد»، ومعتبراً المواجهة التي فرضها بوتين ــــ على حدّ تعبيره ــــ «لحظة لطالما حذّر منها شخصياً، أي صدام بين أيديولوجيات عالمية متنافسة: الحرية مقابل القمع». وأمام حشد من مئات الأشخاص في فناء القلعة الملكية وعدة آلاف آخرين خارج جدرانها الحجرية تابعوه من خلال شاشة ضخمة، قال بايدن إنّ خيار روسيا لشنّ حرب من دون مبرّر أو استفزاز «مثالٌ على واحد من النوازع البشرية البدائية: استخدام القوّة الغاشمة والمعلومات المضلّلة لإشباع الرغبة في السلطة والسيطرة المطلقة». واتّهم الرئيس الروسي بإحياء الحرب الباردة التي حرّضت أميركا الغرب خلالها ضدّ الاتحاد السوفياتي، طوال عقود، في مواجهة محفوفة بالمخاطر بين قوى مسلّحة نووياً.
لكن بعض الكلمات الأخيرة في الخطاب تسبّبت بلغط واسع، بعدما أشار بايدن إلى بوتين، قائلاً: «من أجل الله، لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى في السلطة»، وهو ما اعتبره مراقبون، كما الكرملين، كدعوة صريحة وغطاء لأطراف معيّنة لإطاحة الرئيس الروسي، ومبرّراً لتوسيع نطاق الصراع، وجعله أكثر خطورة. وفور إنهاء بايدن كلمته، كان المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، يسارع إلى التعليق على ذلك أمام الصحافيين، بالقول إن «مصير بوتين ليس في يد الرئيس الأميركي»، مضيفاً إن «رئيس روسيا منتخَب من الشعب الروسي». وفيما شدّد مساعدو بايدن على أن التصريح يجب ألّا يفهم أبداً كدعوة لتغيير النظام في روسيا، وإنّما كدعوة لعدم منح بوتين القدرة على استخدام القوّة ضدّ جيران روسيا والإقليم، من خلال أدوات الحصار، قال ريتشارد هاس، رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي، في تغريدة له على موقع «تويتر»، إن «تراجع البيت الأبيض لن يغسل هفوة بايدن السيّئة والخارجة عن النص، والتي تخاطر بتمديد نطاق الحرب ومدّتها».
ومهما يكن من أمر خطاب بايدن المخصّص للعلاقات العامّة، فقد أنهى الرئيس الأميركي رحلته الأوروبية وعاد إلى بلاده، من دون أن يمنح حلفاءه أي إجابات محدَّدة في شأن كيف أو متى ستنتهي الحرب. وكرّس، بذلك، المخاوف القائمة حول إمكانية توسّع نطاق العنف والدمار، كما المصاعب الاقتصادية الطاحنة المتوقّعة نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا والتي ستطيح حتماً برفاه الأكثرية من المواطنين الأوروبيين.
ومن الجليّ أن التداعيات الاقتصادية للحرب ومنظومة العقوبات على روسيا أكثر حدّة بما يقاس بالنسبة إلى الأوروبيين، كما أن الخطاب الأيديولوجي وحده لن يدفئ قلوب المواطنين في القارّة، أو يضيء منازلهم. وبالنسبة إلى القارّة القديمة، فإن جارها الشرقي الكبير، مصدّر رئيسيّ لوارداتها من النفط والغاز والفحم والمعادن الأساسية، التي تُستخدم في مختلف الصناعات، من الهواتف المحمولة إلى السيارات. روسيا هي أيضاً مصدر رئيسيّ لمحاصيل القمح والذرة. وقد تسبّب استمرار حالة عدم اليقين في شأن النقص في الإمدادات بارتفاع الأسعار التي تضخّمت بالفعل قبل الحرب بسبب جائحة فيروس «كورونا» واختناقات في سلاسل التوريد. ومن المرجّح أن تشهد أسعار النفط صعوداً إضافياً بعد تعرّض مواقع نفطيّة سعودية لهجمات يمنية واسعة، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي.